للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ آثَارِهَا فِي تَخْرِيبِ بُيُوتِ مَنِ اصْطِيدُوا بِأَحَابِيلِهَا مِنْ إِخْوَانِهِمْ. وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا عَاقِلًا رَأَى مِنْ وَلَدِهِ مَيْلًا إِلَى الْمُقَامَرَةِ لِمُعَاشَرَتِهِ بَعْضَ أَهْلِهَا، فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ وَخَافَ أَنْ يُضَيِّعَ وَلَدُهُ مَا يَرِثُهُ عَنْهُ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِغْرَاءً، قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ إِذَا شِئْتَ أَنْ تُقَامِرَ بِأَنْ تَبْحَثَ عَنْ أَقْدَمِ مُقَامِرٍ فِي الْبَلَدِ وَتَلْعَبُ مَعَهُ، فَطَفِقَ الْوَلَدُ بَعْدَهُ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ، وَكُلَّمَا دُلَّ عَلَى وَاحِدٍ عِلْمِ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْبَحْثُ إِلَى شَيْخٍ رَثِّ الثِّيَابِ، ظَاهِرِ الِاكْتِئَابِ، فَعَلِمَ مِنْ حَالِهِ وَمَقَالِهِ أَنَّ مَآلَ الْمُقَامِرِ إِلَى أَسْوَأِ مَآبٍ، وَأَنَّ وَالِدَهُ قَدِ اجْتَهَدَ بِنَصِيحَتِهِ فَأَصَابَ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَرَجَعَ هُوَ إِلَى رُشْدِهِ وَأَنَابَ، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمُقَامِرَةِ مِنْ طَاقٍ وَلَا بَابٍ.

وَيَشْتَرِكُ الْمَيْسِرُ مَعَ الْخَمْرِ فِي أَنَّ مُتَعَاطِيَهُمَا قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِمَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ بَلَائِهِمَا; لِأَنَّ لِلْخَمْرِ تَأْثِيرًا فِي الْعَصَبِ يَدْعُو إِلَى الْعَوْدِ إِلَى شُرْبِهَا وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا، فَإِنَّ مَا تُحْدِثُهُ مِنَ التَّنْبِيهِ يَعْقُبُهُ خُمُودٌ وَفُتُورٌ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ، فَيَشْعُرُ السَّكْرَانُ بَعْدَ الصَّحْوِ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى مُعَاوَدَةِ السُّكْرِ، لِيَزُولَ عَنْهُ مَا حَلَّ بِهِ، فَإِذَا هُوَ عَادَ قَوِيَتِ الدَّاعِيَةُ، وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَإِنَّ صَاحِبَهُ كُلَّمَا رَبِحَ طَمِعَ فِي الزِّيَادَةِ، وَكُلَّمَا خَسِرَ طَمِعَ فِي تَعْوِيضِ الْخَسَارَةِ، وَيَضْعُفُ الْإِدْرَاكُ حَتَّى تَعِزَّ مُقَاوَمَةُ هَذَا الطَّمَعِ الْوَهْمِيِّ، وَهَذَا شَرُّ مَا فِي هَاتَيْنِ الْجَرِيمَتَيْنِ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ هَدَانَا لِأَنْ نَعْلَمَ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِبَحْثِنَا لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَحْرِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَأَنَّنَا نَرَى الْأُمَمَ الَّتِي لَا تَدِينُ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ تُخَاطَبْ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ قَدِ اهْتَدَتْ إِلَى مَا لَمْ نَهْتَدِ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَضَارِّ، وَأَنْشَأَتْ تُؤَلِّفُ الْجَمْعِيَّاتِ لِلسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ هَاتَيْنِ الْجَرِيمَتَيْنِ، وَنَحْنُ الَّذِينَ مُنِحْنَا تِلْكَ

الْهِدَايَةَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ أَنْشَأْنَا نَأْخُذُ عَنْ تِلْكَ الْأُمَمِ مَا أَنْشَأَتْ هِيَ تُقَاوِمُهُ وَتَذُمُّهُ، حَتَّى إِنَّ السُّكْرَ قَدْ غَلَبَ فِي رُؤَسَاءِ دُنْيَانَا، وَالْمَيْسِرَ قَدِ انْتَشَرَ فِي أُمَرَائِنَا وَكُبَرَائِنَا، ثُمَّ فَشَا فِيمَنْ دُونَهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ. نَبَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِهَذِهِ الْعِبْرَةِ وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ كَيْفَ صَارُوا يَكْفُرُونَهَا، وَكَيْفَ حَلَّ بِهِمْ غَضَبُ اللهِ تَعَالَى فَسُلِبُوا مُعْظَمَ مَا وُهِبُوا، وَيُخْشَى أَنْ يَمْتَدَّ ذَلِكَ حَتَّى يَعِزَّ تَدَارَكُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.

قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ حِينَ أُمِرُوا بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي أُمِرْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَمَا نُنْفِقُ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لَنَا أَرِقَّاءَ وَأَهْلِينَ فَمَا نُنْفِقُ مِنْ أَمْوَالِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى

<<  <  ج: ص:  >  >>