نَوَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ بِهَذِهِ الْعِبْرَةِ وَقَالَ: إِنَّنِي كُنْتُ أَقُولُ إِنَّ الْمِصْرِيِّينَ لايَفْنُونَ فِي جِنْسٍ آخَرَ، وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ قُرُونًا طَوِيلَةً، وَلَكِنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يَفْنَى فِيهِمْ; لِأَنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِكُلِّ سُلْطَةٍ، وَيَدِينُونَ لِكُلِّ قُوَّةٍ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ الذُّلُّ وَالْفَقْرُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِمْ، بَلْ يَظَلُّونَ - مَا وَجَدُوا قُوتًا - يَتَنَاسَلُونَ وَيَكْثُرُونَ، وَالْعَامِلُ لَا يَعْدِمُ فِي أَرْضٍ زِرَاعِيَّةٍ كَمِصْرَ قُوتًا; وَلِذَلِكَ تَقَلَّبَتِ الْأُمَمُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ ثُمَّ زَالَتْ أَوْ زَالَ سُلْطَانُهَا عَنْهُمْ، وَبَقِيَ الْمِصْرِيُّونَ مِصْرِيِّينَ، لَهُمْ سَحْنَتُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ وَعَادَاتُهُمْ، وَلَكِنَّنِي رَجَعْتُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ مِنِ انْتِشَارِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فِي الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْخُمُورُ الْإِفْرِنْجِيَّةُ الَّتِي تُبَاعُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْفَلَّاحِينَ وَمَا هِيَ بِخَمْرٍ جُعِلَتْ لِلشُّرْبِ، وَإِنَّمَا هِيَ الْمَادَّةُ الْمُحْرِقَةُ السَّامَّةُ الَّتِي تُسَمَّى (السِّبِرْتُو) يُضَافُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ وَالسُّكَّرِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُمَكِّنُ مِنْ تَنَاوُلِهَا، فَإِذَا اسْتَمَرَّ السُّكْرُ وَالْفُحْشُ عَلَى سَرَيَانِهِمَا هَذَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَنْقَرِضَ الْأُمَّةُ الْمِصْرِيَّةُ بَعْدَ جِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ كَمَا انْقَرَضَ هُنُودُ أَمْرِيكَا فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا بَقِيَّةٌ مِنَ الْخَدَمِ وَالْأُجَرَاءِ عِنْدَ مَنْ يَخْلُفُهُمْ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ السُّكْرَ وَالزِّنَا كَالْمِقْرَاضَيْنِ يَقْرِضَانِ الْأُمَمَ قَرْضًا.
وَأَمَّا كَوْنُ إِثْمِ الْمَيْسِرِ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْخَمْرِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ أَنْوَاعُ الْقِمَارِ وَعَمَّ ضَرَرُهَا، حَتَّى إِنَّ الْحُكُومَاتِ الْحُرَّةَ الَّتِي تُبِيحُ تِجَارَةَ الْخَمْرِ تَمْنَعُ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ وَتَعَاقِبُ عَلَيْهَا، عَلَى احْتِرَامِهَا لِلْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ التَّصَرُّفِ الَّتِي لَا تَضُرُّ بِغَيْرِ الْعَامِلِ، فَمَنْفَعَةُ الْقِمَارِ وَهْمِيَّةٌ وَمَضَرَّاتُهُ حَقِيقِيَّةٌ; فَإِنَّ الْمُقَامِرَ يَبْذُلُ مَالَهُ الْمَمْلُوكَ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ لِأَجْلِ رِبْحٍ مَوْهُومٍ لَيْسَ عِنْدَهُ وَزْنُ ذَرَّةٍ لِتَرْجِيحِهِ عَلَى خَطَرِ الْخُسْرَانِ وَالضَّيَاعِ، وَالْمُسْتَرْسِلُ فِي إِضَاعَةِ الْمُحَقَّقِ طَلَبًا لِلْمُتَوَهَّمِ يُفْسِدُ فِكْرَهُ وَيُضْعِفُ عَقْلَهُ; وَلِذَلِكَ يَنْتَهِي الْأَمْرُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُقَامِرِينَ إِلَى بَخْعِ أَنْفُسِهِمْ - قَتْلِهَا غَمًّا - أَوِ الرِّضَى بِعِيشَةِ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّنِي أَعْرِفُ رَجُلًا كَانَتْ ثَرْوَتُهُ لَا تَقِلُّ عَنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ جُنَيْهٍ (٣ مَلَايِينَ) فَمَا زَالَ شَيْطَانُ الْقِمَارِ يُغْرِيهِ بِاللَّعِبِ فِيهِ حَتَّى فَقَدَ ثَرْوَتَهُ كُلَّهَا
وَعَاشَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ فَقِيرًا مُعْدَمًا حَتَّى مَاتَ جَائِعًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ رَبِحَ فِي لَيْلَةٍ تِسْعَمِائَةِ أَلْفِ فِرَنْكَ، فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أُتِمَّهَا مِلْيُونًا، فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى خَسِرَهَا إِلَى مِلْيُونٍ آخَرَ، وَهَكَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُقَامِرِينَ يَغْتَرُّونَ بِالرِّبْحِ الَّذِي يَكُونُ لَهُمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ أَحْيَانًا فَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْمُقَامَرَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ شَيْءٌ.
وَلِبُيُوتِ الْقِمَارِ فِي مِصْرَ طُرُقٌ فِي اسْتِدْرَاجِ الْأَغْنِيَاءِ لَا يَعْقِلُهَا الْمِصْرِيُّونَ عَلَى مَا يَرَوْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute