تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ظَنِّيَّةٌ، وَلِذَلِكَ عَمِلَ فِيهَا الصَّحَابَةُ بِاجْتِهَادِهِمْ - عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ - وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَبَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدْعُو اللهَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَتَرَكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ; لِأَنَّ دَلَالَتَهَا قَطْعِيَّةٌ لَا مِرَاءَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ، وَأَمَّا كَوْنُ إِثْمِ هَاتَيْنِ الْفِعْلَتَيْنِ; أَيْ: ضَرَرُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا مَعَ إِثْبَاتِ الْمَنَافِعِ لَهُمَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةٌ قَطْعِيَّةٌ.
وَمَضَرَّةُ الْخَمْرِ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، قِيلَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَلَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي حَرَارَتِكَ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلُهُ جَوْفِي، وَلَا أَرْضَى أَنْ أُصْبِحَ سَيِّدَ الْقَوْمِ وَأُمْسِي سَفِيهَهُمْ.
وَأَطِبَّاءُ الْإِفْرِنْجِ وَعُلَمَاؤُهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ - بِالْأَوْلَى - أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، وَقَدْ أُلِّفَتْ جَمْعِيَّاتٌ فِي أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا لِلسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ الْمُسْكِرَاتِ، فَهُمْ يَتَعَاهَدُونَ عَلَى عَدَمِ الشُّرْبِ، وَعَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى ذَلِكَ وَالسَّعْيِ لَدَى الْحُكُومَاتِ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى بَائِعِي الْخُمُورِ. فَالْأَيَّامُ وَالْأَجْيَالُ كُلَّمَا تَقَدَّمَتْ وَارْتَقَتْ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ إِثْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، فَإِنَّ أَطِبَّاءَ هَذَا الْعَصْرِ يَصِفُونَ مِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ مَا أَطْلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِيَبْحَثُوا فِيهِ وَيَتَبَيَّنُوا صِدْقَهُ بِأَنْفُسِهِمْ; لِتَكُونَ عُقُولُهُمْ مُؤَيِّدَةً لِكِتَابِهِ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ.
وَلَكِنْ لَدَيْنَا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ وَأَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ مَنِ اسْتَعْبَدَهُمْ سُلْطَانُ اللَّذَّةِ فَصَرْفَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَضَرَّاتِ، كَمَا صَرَفَهُمْ عَنْ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَصَرَفَ آبَاءَهُمْ عَنْ تَرْبِيَتِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَسْرَفُوا فِي مُعَاقَرَةِ الْخَمْرِ حَتَّى غِيضَ مَعِينُ حَيَاةِ بَعْضِ الشُّبَّانِ، وَانْكَسَفَتْ شُمُوسُ عُقُولِ آخَرِينَ قَبْلَ الِاكْتِهَالِ فَحُرِمُوا مِنْ سَعَادَةِ الْحَيَاةِ، وَحُرِمَتْ بُيُوتُهُمْ وَأُمَّتُهُمْ مِمَّا كَانَتْ تَرْجُوهُ مِنْ ذَكَائِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ. بَدَتْ فِتْنَةُ السُّكْرِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْكُبَرَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَصَارَتْ تُعَدُّ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمُتَمَدْيِنِينَ، وَسَرَتْ عَدْوَاهَا إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى قَلَّدَ فِيهَا شُيُوخُ الْقُرَى وَعُمَدُ الْبِلَادِ فَكَانُوا شَرَّ قُدْوَةٍ لِلْفَلَّاحِينَ وَالْعُمَّالِ وَالْأُجَرَاءِ، وَعَمَّ خَطَرُ هَذِهِ الْآفَةِ الَّتِي تَتْبَعُهَا آفَةُ الزِّنَا حَيْثُ سَارَتْ، وَيَتْبَعُ الزِّنَا دَاءُ الزُّهْرِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ انْقِطَاعِ النَّسْلِ، فَأَيَّةُ مَنْفَعَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْآفَاتِ الْقَاتِلَةَ وَالْجَوَائِحَ الْمُصْطَلِمَةَ؟ !
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute