للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْآنَ بَلْ هِيَ ضَارَّةٌ فِيهَا; لِأَنَّ الْحَرْبَ صَارَتْ صِنَاعَةً دَقِيقَةً وَفَنًّا مِنَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ حُضُورِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ النَّظَرِ; فَرُبَّ غَلْطَةٍ مِنْ قَائِدٍ تُذْهِبُ بِجَيْشِهِ وَتُظْفِرُ بِهِ عَدُوَّهُ، فَالضُّبَّاطُ مُدَبِّرُونَ وَالْجُنُودُ آلَاتٌ عَاقِلَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ لَا نَجَاحَ لَهَا إِلَّا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَعَ الْفَهْمِ، وَالسُّكْرُ قَدْ يَحُولُ دُونَ حُسْنِ التَّدْبِيرِ مِنَ الضُّبَّاطِ وَسُرْعَةِ الِامْتِثَالِ مِنَ الْجُنُودِ، وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْحُكُومَاتُ الَّتِي تُبِيحُ الْخَمْرَ عَلَى مَنْعِهَا عَنِ الْجُيُوشِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ.

وَيُعِدُّونَ مِنْ مَنَافِعِ بَعْضِ الْخُمُورِ الْقَلِيلَةِ التَّأْثِيرِ كَالْجِعَةِ (الْبِيرَةِ) التَّغْذِيَةَ وَالتَّحْلِيلَ، وَيُعْجِبُنِي جَوَابُ سُؤَالٍ فِي ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَجَلَّةٍ عَرَبِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّ لُقْمَةً مِنَ الْخُبْزِ أَكْثَرُ تَغْذِيَةٍ مِنْ كُوبٍ مِنَ الْبِيرَةِ، وَأَنَّ كُوبًا مِنَ الْمَاءِ أَشَدُّ تَحْلِيلًا مِنْ كُوبٍ مِنْهَا، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ضَرَرٌ مَا، وَمِنَ الْجِعَةِ مَا لَا يُسْكِرُ كَمَا يُقَالُ.

وَمِنْ مَنَافِعِ الْمَيْسِرِ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا الْآنَ، وَإِلَّا فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (يَانَصِيبَ) لِبِنَاءِ الْمَلَاجِئِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَدَارِسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ الَّذِي كَانَ الْعَرَبُ يَخُصُّونَهُمْ بِهِ، وَمِنْهَا سُرُورُ الرَّابِحِ وَأَرْيَحِيَّتُهُ، وَيُقَابِلُهُ كَدَرُ الَّذِينَ

يَخْسَرُونَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ; لِأَنَّ أَكْثَرَ رِبْحِ الْقِمَارِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَغْتَالُهُ الَّذِينَ يُدِيرُونَ أَعْمَالَهُ.

وَمِنْهَا أَنْ يَصِيرَ الْفَقِيرُ غَنِيًّا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ أَشَدِّ ضَرَرِهِ فِي الْأُمَّةِ، أَوْ أَشَدِّهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قَدْ سَلَبَهَا اللهُ تَعَالَى مِنْهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الْحِسُّ يَنْبِذُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ الْجَرِيمَتَيْنِ بَعْدَ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْأَصْلَ فِي التَّنْفِيرِ بِقَوْلِهِ: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) وَهَذَا الْقَوْلُ إِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتَدُوا مِنْهُ إِلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَقَرَّرَتَا بَعْدُ فِي الْإِسْلَامِ: قَاعِدَةُ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقَاعِدَةُ تَرْجِيحِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَكِنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى ذَلِكَ جَمِيعُهُمْ، إِذْ وَرَدَ أَنَّ بَعْضَهُمْ تَرَكَ الْخَمْرَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَتْرُكْ كَمَا تَقَدَّمَ.

هَذَا مَا كُنْتُ كَتَبْتُهُ وَنَشَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ فَطِنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ بَيَّنْتُهَا فِي الْمَنَارِ وَفِي التَّفْسِيرِ وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ مِنَ النُّصُوصِ ظَنِّيَّةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ لَا يُجْعَلُ تَشْرِيعًا عَامًّا تُطَالَبُ بِهِ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بِاجْتِهَادِهِ، فَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الدَّلَالَةَ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ امْتَنَعَ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ ذَلِكَ جَرَى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ. وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>