الصَّحِيحُ، وَقَدْ فَرَّقَ (الرَّاغِبُ) بَيْنَ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ وَالذِّلِّ بِكَسْرِهَا فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ مَا كَانَ عَنْ قَهْرٍ، وَفِي الثَّانِي: مَا كَانَ بَعْدَ تَصَعُّبٍ وَشِمَاسٍ، وَمِنْهُ تَذْلِيلُ الدَّوَابِّ. وَضَرْبُ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْيَهُودِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْصَاقِهَا بِهِمْ وَظُهُورِ أَثَرِهَا فِيهِمْ كَمَا يَكُونُ مِنْ ضَرْبِ السِّكَّةِ بِمَا يُنْقَشُ فِيهَا، أَوْ عَنْ إِحَاطَتِهَا بِهِمْ كَإِحَاطَةِ الْخَيْمَةِ
الْمَضْرُوبَةِ بِمَنْ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [٢: ٦١] الْآيَةَ فَلْيُرَاجَعْ ; فَإِنَّ مَا هُنَا لَا يُغْنِي عَنْهُ. وَالْحَبْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَرْتَبِطُونَ بِالْعُهُودِ كَمَا يَقَعُ الِارْتِبَاطُ الْحِسِّيُّ بِالْحِبَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَتَتْهُ الْأَنْصَارُ فِي الْعَقَبَةِ: " أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّا قَاطِعُونَ فِيكَ حِبَالًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ " وَيُسَمَّى السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ حَبْلًا وَالْحَبْلُ سَبَبًا. قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى " إِلَّا بِعَهْدٍ " أَوْ سَبَبٍ يَأْمَنُونَ بِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: السَّبَبُ مِنَ اللهِ الْإِسْلَامُ، وَالسَّبَبُ مِنَ النَّاسِ الْعَهْدُ أَوِ التَّأْمِينُ. وَاخْتَارَ (الرَّازِيُّ) أَنَّ الْحَبَلَ مِنَ اللهِ هُوَ الْجِزْيَةُ، أَيِ الذِّمَّةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقَبُولِهِمْ دَفْعَ الْجِزْيَةِ. وَالْحَبْلُ مِنَ النَّاسِ هُوَ مَا فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيَزِيدُ فِيهِ تَارَةً وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ حَالَهُمْ مَعَكُمْ أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مَهْضُومِي الْحُقُوقِ رَغْمَ أُنُوفِهِمْ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَا قَرَّرَتْهُ شَرِيعَتُهُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا فِي حُكْمِكُمْ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ وَالْقَضَاءِ وَتَحْرِيمِ إِيذَائِهِمْ وَهَضْمِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعِيشَةِ مِنِ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْكُمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ; أَيْ فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الذِّلَّةِ لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ لَا عِزَّةَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ قَدْ فُقِدَا مِنْهُمْ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَظْهَرُ وَأَشَدُّ انْطِبَاقًا عَلَى الْوَاقِعِ، فَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُمْ وَيَقْتَرِضُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ يَفْعَلُونَ، وَقَضِيَّةُ عَلِيٍّ مَعَ الْيَهُودِيِّ عِنْدَ عُمَرَ مَشْهُورَةٌ، وَفِيهَا أَنَّ عَلِيًّا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ مُخَاطَبَتَهُ أَمَامَ خَصْمِهِ الْيَهُودِيِّ بِالْكُنْيَةِ وَفِيهَا تَعْظِيمٌ يُنَافِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا تَفْسِيرُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا. بَاءُوا بِالْغَضَبِ: كَانُوا أَحِقَّاءَ بِهِ مِنَ الْبَوَاءِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، يُقَالُ بَاءَ فُلَانٌ بِدَمِ فُلَانٍ أَوْ بِفُلَانٍ إِذَا كَانَ حَقِيقًا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ، أَوْ أَقَامُوا فِيهِ وَلَبِثُوا مِنَ الْمَبَاءَةِ أَيْ حَلُّوا مُبَوَّأً أَوْ بِيئَةً مِنَ الْغَضَبِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْمَسْكَنَةَ بِالْفَقْرِ، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ: إِنَّ الْيَهُودَ فِي الْغَالِبِ أَهْلُ فَقْرٍ وَمَسْكَنَةٍ! وَلَيْسَتِ الْمَسْكَنَةُ هِيَ الْفَقْرُ وَإِنَّمَا هِيَ سُكُونٌ عَنْ ضَعْفٍ أَوْ حَاجَةٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: إِنَّ الْمَسْكَنَةَ حَالَةٌ لِلشَّخْصِ مَنْشَؤُهَا اسْتِصْغَارُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَدَّعِيَ لَهُ حَقًّا، وَالذِّلَّةُ حَالَةٌ تَعْتَرِي الشَّخْصَ مِنْ سَلْبِ غَيْرِهِ لِحَقِّهِ وَهُوَ يَتَمَنَّاهُ، فَمَنْشَؤُهَا
وَسَبَبُهَا غَيْرُهُ لَا نَفْسُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute