للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَالْمَسْكَنَةِ، وَكَأَنَّ الْبَيْضَاوِيَّ أَخَذَ عِبَارَتَهُ مِنْ قَوْلِ الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: " فَالْيَهُودُ صَاغِرُونَ أَذِلَّاءُ أَهْلُ مَسْكَنَةٍ وَمَدْقَعَةٍ إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِمَّا لِتَصَاغُرِهِمْ وَتَفَاقُرِهِمْ خِيفَةَ أَنْ تُضَاعَفَ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ " وَهَذَا الْوَصْفُ أَكْثَرُ انْطِبَاقًا عَلَيْهِمْ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَنَقَلَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ فَسَّرُوا الْمَسْكَنَةَ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَقِيَتْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ، أَخَذُوا هَذَا مِنْ ذِكْرِهَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ أَنَّ الذِّلَّةَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ لَا تَرْتَفِعُ عَنْهُمْ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، فَاسْتَثْنَى مِنَ الذِّلَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسْكَنَةَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ بَقَاءَهَا عَلَيْهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْجِزْيَةِ كَوْنُهُمْ تَابِعِينَ لِغَيْرِهِمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ مَا يَضْرِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ وَادِعِينَ سَاكِنِينَ فَهَذَا الْوَصْفُ صَادِقٌ عَلَى الْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ فِي كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الذُّلُّ فَقَدْ كَانَ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِمْ بِالْمُسَاوَاةِ وَاحْتِرَامِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْتِزَامِ حِمَايَتِهِمْ وَالذَّوْدِ عَنْهُمْ بَعْدَ إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ حُكَّامِهِمُ السَّابِقِينَ الظَّالِمِينَ، وَبِحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُمْ فِيمَا عَدَا رُوسْيَا مِنْ بِلَادِ أُورُبَّا بِحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ قَوَانِينُهُمُ الَّتِي تُسَاوِي بَيْنَ رَعَايَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَعْدَاءً فِي أُورُبَّا وَقَدْ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِمْ فِي أَلْمَانْيَا بِلَقَبِ الْأَلْمَانِيِّ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُمْ بِلَقَبِ الْيَهُودِيِّ.

وَهَلْ تَرْتَفِعُ عَنْهُمُ الْمَسْكَنَةُ فَيَكُونُ لَهُمْ مُلْكٌ وَسُلْطَانٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ؟ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَسْطٍ، فَأَمَّا مِنَ الْجِهَةِ الدِّينِيَّةِ فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُمْ مُبَشَّرُونَ بِذَلِكَ بِظُهُورِ مَسِيحِ " مسيا " فِيهِمْ وَمَعْنَاهُ ذُو الْمُلْكِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُرَادُ بِالْمُلْكِ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ: الْمُلْكُ الرُّوحَانِيُّ الْمَعْنَوِيُّ. وَفِي إِنْجِيلِ بَرْنَابَا عَنِ الْمَسِيحِ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ فَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي اسْتَتْبَعَتِ الْمُلْكَ. وَمَحَلُّ هَذَا الْبَحْثِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [١٧: ٨] فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مِنَ الْجِهَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَرْضِ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَعَنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ فُنُونِ الْحَرْبِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الزِّرَاعِيَّةِ لِعِنَايَتِهِمْ بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَارِدِ وَأَكْثَرِهَا نَمَاءً وَأَقَلِّهَا عَنَاءً كَالرِّبَا. وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِ عَلَاقَتِهِ بِالْمُلْكِ.

ثُمَّ عَلَّلَ - تَعَالَى - هَذَا الْجَزَاءَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ

وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ: أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ، وَخِلَافَتِهِمْ بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>