للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التَّحَدِّي بِمَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَحَضَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهَا وَ ((أَنَّمَا)) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ كَالْمَكْسُورَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ (وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ يُعْبَدُ بِالْحَقِّ إِلَّا هُوَ ; لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِ أَنْ يَعْلَمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَعْجِزَ كُلُّ مَنْ عَدَاهُ عَنْ مِثْلِ مَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا ظَهَرَ بِهَذَا التَّحَدِّي عَجْزُكُمْ وَعَجْزُ آلِهَتِكُمْ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ

سُوَرٍ مِثْلِ سُوَرِ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَعَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَالِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أَيْ فَهَلْ أَنْتُمْ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ دَاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مُؤْمِنُونَ بِعَقَائِدِهِ وَحَقِّيَّةِ أَخْبَارِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مُذْعِنُونَ لِأَحْكَامِهِ؟ أَيْ لَمْ يَبْقَ لَكُمْ مَحِيصٌ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَقَدْ دُحِضَتْ شُبْهَتُكُمْ. وَانْقَطَعَتْ مَعَاذِيرُكُمْ، إِلَّا جُحُودَ الْعِنَادِ وَإِعْرَاضَ الِاسْتِكْبَارِ، فَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْإِسْلَامِ وَالْإِذْعَانِ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، لَا يُرِيدُ إِلَّا إِيقَاعَ الشِّقَاقِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَصَدَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٥: ٩١) أَيْ عَنْهُمَا بَعْدَ عِلْمِكُمْ بِهَذَا الرِّجْسِ وَالْمَخَازِي الَّتِي فِيهَا أَمْ لَا؟ وَأَيُّ إِنْسَانٍ يَمْلِكُ مَسْكَةً مِنْ عَقْلٍ وَشَرَفٍ لَا يَقُولُ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ: أَسْلَمْنَا أَسْلَمْنَا، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا؟ . (الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ) أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي لَكُمْ لِلتَّعْظِيمِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَاصٍّ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانُوا كُلُّهُمْ دُعَاةً إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُجِبْكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَا تَحَدَّيْتُمُوهُمْ بِهِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ

سُوَرٍ مِثْلِهِ وَلَوْ مُفْتَرَيَاتٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ بِكَوْنِ أَخْبَارِهَا حَقًّا كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ - وَمَا هُمْ بِمُسْتَجِيبِينَ لَكُمْ لِعَجْزِهِمْ وَعَجْزِ مَنْ عَسَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ لِمُظَاهَرَتِهِمْ عَلَيْهِ - فَاثْبُتُوا عَلَى عِلْمِكُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ، وَازْدَادُوا بِهِ إِيمَانًا وَيَقِينًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَهَلْ أَنْتُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِسْلَامِكُمْ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ؟ أَيِ اثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْوَى، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِ الثَّانِي، وَلَكِنْ رَجَّحَهُ كَثِيرُونَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>