عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) شَدَّدَ الْكُوفِيُّونَ مِنَ الْقُرَّاءِ الْفَاءَ، وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْأُولَى وَجَعَلَ زَكَرِيَّا
كَافِلًا لَهَا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ ظَاهِرٌ، وَقَرَءُوا (زَكَرِيَّا) بِالْقَصْرِ وَبِالْمَدِّ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْمُصَلَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مُقَدَّمِ الْمَجْلِسِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى مِحْرَابًا إِلَّا إِذَا كَانَ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِالسَّلَالِيمِ. وَأَقُولُ: الْمِحْرَابُ هُنَا هُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْمَذْبَحِ، وَهُوَ مَقْصُورَةٌ فِي مُقَدَّمِ الْمَعْبَدِ لَهَا بَابٌ يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِسُلَّمٍ ذِي دَرَجَاتٍ قَلِيلَةٍ وَيَكُونُ مَنْ فِيهِ مَحْجُوبًا عَمَّنْ فِي الْمَعْبَدِ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالُوا: كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ. وَاللهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَا قَالَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا هُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ تَارِيخٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَالرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مُتَعَارِضَةٌ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَا فِيهَا، وَمِمَّا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا وَإِنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى حَمْلِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى نَجَّارٍ مِنْهُمْ، فَكَانَ يَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ بِمَا يُصْلِحُهَا فَيُنَمِّيهِ اللهُ وَيُكَثِّرُهُ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا فَيَجِدَ عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ أَيْ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ الْأَيَّامُ أَيَّامُ قَحْطٍ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَازِقِ النَّاسِ بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا تَوَقُّعٍ مِنَ الْمَرْزُوقِ، أَوْ رِزْقًا وَاسِعًا (رَاجِعْ آيَةَ ٢٧) وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِسْنَادُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمْرَ إِلَى اللهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ مَعْهُودٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ سَائِغًا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى عَنَاءٍ وَلَا ذَهَابٍ فِي الدِّفَاعِ عَنْ شَيْءٍ خِلَافَ الظَّاهِرِ، فَعَلَيْنَا أَلَّا نَخْرُجَ عَنْ سُنَّتِهِ وَلَا نُضِيفَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ إِسْرَائِيلِيَّةً أَوْ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيَّةٍ لِجَعْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ الرِّزْقِ مَا هُوَ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ فُضُولٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى وَلَا لِمَزِيدِ الْعِبْرَةِ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ فِي بَيَانِهِ خَيْرًا لَنَا لَبَيَّنَهُ.
أَمَّا مَا سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَبْحَثَ فِيهِ، وَنَسْتَخْرِجَ الْعِبَرَ مِنْ قَوَادِمِهِ وَخَوَافِيهِ، فَهُوَ تَقْرِيرُ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَحْضُ شُبَهِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ احْتَكَرُوا فَضْلَ اللهِ وَجَعَلُوهُ خَاصًّا بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَشُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ
الَّذِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ لِأَنَّهُ بَشَرٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ هُوَ تَقْرِيرُ عَقِيدَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَهَمُّ مَسَائِلِهَا مَسْأَلَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالْأَنْبِيَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute