للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدِ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِ التَّوْحِيدِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، ثُمَّ كَانَتِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ قُبَيْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ الْبَعْثِ بِالتَّفْصِيلِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَاتِ وَالْأَوْهَامِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَادِّعَاءَ حُبِّهِ وَرَجَاءَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ فِيهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي تُزِيلُ شُبَهَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِسَالَتِهِ وَتَرُدُّهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ.

رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ بِجَعْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَتَمْكِينِهِ هُوَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ تَسْخِيرِهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ اصْطِفَاءِ نُوحٍ وَجَعْلِهِ أَبَا الْبَشَرِ الثَّانِي وَجَعْلِ ذُرِّيَّتِهِ هُمُ الْبَاقِينَ، وَمِنَ اصْطِفَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ عَلَى الْبَشَرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُونَ يَفْخَرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يَفْخَرُ الْآخَرُونَ بِاصْطِفَاءِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَفِيدِ إِبْرَاهِيمَ، فَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُرْشِدُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اصْطَفَى هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ مَزِيَّةٍ سَبَقَتْ مِنْهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَهُ فِي اصْطِفَاءِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَبِذَلِكَ اصْطَفَى هَؤُلَاءِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، فَمَا الْمَانِعُ بِهِ مِنَ اصْطِفَاءِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْعَالَمِينَ كَمَا اصْطَفَى أُولَئِكَ؟ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ أَنْ بَعَثَ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ وُجُودِهِمْ. قُلْنَا وَلِمَ اصْطَفَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ؟ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ؟ بَلَى وَبِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ اصْطَفَى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذِهِ الْمُثُلُ مَسْبُوقَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَصْطَفِي مِنْ خَلْقِهِ مَنْ يَشَاءُ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ شَاءَ اصْطَفَاهُ فَاصْطَفَاهُ بِالْفِعْلِ فَهُوَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ بِالْفِعْلِ ; إِذْ جَعَلَهُ هَادِيًا لِلنَّاسِ مُخْرِجًا لَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالْجَهْلِ وَالْفَسَادِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ الْجَامِعِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ أَثَرُ غَيْرِهِ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَظْهَرَ مِنْ أَثَرِهِ، بَلْ أَثَرُهُ أَظْهَرُ وَنُورُهُ أَسْطَعُ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى

كُلِّ عَبْدٍ مُصْطَفًى - وَهَذَا بَيَانٌ لِوَجْهِ اتِّصَالِ الْقِصَّةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْمُثُلِ قِصَّةُ مَرْيَمَ فَإِنَّ أُمَّهَا إِذَا كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ وَهِيَ عَاقِرٌ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ كَمَا نُقِلَ، أَوْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ قَبُولُ الْأُنْثَى مُحَرَّرَةً لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ تَقَبَّلَهُ اللهُ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللهُ مُحَمَّدًا مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ عِنْدَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْآتِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ يُعْلَمُ أَنَّ أَعْمَالَهُ - تَعَالَى - لَا تَأْتِي دَائِمًا عَلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ وَيَأْلَفُونَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>