وَقَوْلِهِ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (١١: ٤٣) وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا (٨: ٧٢) إِلَخْ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ
بِذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ أَصَحُّهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ - أَيِ الْمُهْلِكَاتِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْكَفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَدَّ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا (٨: ٦٦) الْآيَةَ وَسَتَأْتِي. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي التَّخْصِيصَ نَسْخًا كَالْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا، وَلَا يَسْتَوْجِبُونَ السُّخْطَ عِنْدِي مِنَ اللهِ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي بَصْرَةَ وَعِكْرِمَةَ وَنَافِعٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصٌّ بِيَوْمِ بَدْرٍ - قِيلَ: إِنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُرَادُ بِهِ يَوْمُ بَدْرٍ، وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُهُ نُزُولُ الْآيَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْغَزْوَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ " يَوْمِ بَدْرٍ " وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِتَنْوِينِ يَوْمَئِذٍ مَا فُهِمَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، أَيْ يَوْمَ لِقَائِهِمْ زَحْفًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْيَوْمُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا قَدْ يَتَّجِهُ بِنَاءُ التَّخْصِيصِ عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ اشْتِبَاكِ الْقِتَالِ - خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ - مَعَ مَا لِغَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ الْخَصَائِصِ كَكَوْنِهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، لَوِ انْهَزَمَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ لَكَانَتِ الْفِتْنَةُ كَبِيرَةً، وَتَأْيِيدُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَهُمْ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى بِنَصْرِهِمْ، وَإِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ - فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَجْمُوعِ الْخَصَائِصِ، وَقَرِينَةِ الْحَالِ فِي النَّهْيِ، اتَّجَهَ كَوْنُ التَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِي الْآيَةِ خَاصًّا بِهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَحَنَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ خَاصًّا بِهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَحَنَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ فِي الْقِتَالِ مَرَّتَيْنِ مَعَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ: يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ
مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٣: ١٥٥) وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute