مُوَصِّلَةٍ بَيْنَ الْآلَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْكَلَامِ وَالْقَابِلَةِ لَهُ بِمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَطِّ لَا الصَّوْتِ، وَهِيَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالتِّلِغْرَافِ.
فَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَدَاءٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يَقُومُ فِي نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَيُرِيدُ إِيصَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُسَمَّى كَلَامُهُ حَقِيقَةً كَمَا يُعْلَمُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَالْمُخَضْرَمِينَ وَالْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُمَا وَمِنْ بَعْدِهِمْ، وَلِلْأَخْطَلِ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ تَدَاوَلَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَاسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَهُ هُوَ حَقِيقَةُ مَدْلُولِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَهُوَ:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
وَلَيْسَ هَذَا بِحُجَّةٍ لُغَوِيَّةٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَقُصَارَى الِاحْتِجَاجِ بِشِعْرِ الشَّاعِرِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَتَرْكِيبِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رَأْيَهُ فِيهِ صَحِيحًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ كُلَّ مَا يَقُولُهُ حَقًّا فِي الْوَاقِعِ، وَلَا فِي اعْتِقَادِهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شِعْرًا، فَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ لِمَادَّةِ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْمَعَانِي كَلَامٌ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ: سَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ بِكَذَا، وَكَلَّمْتُهُ وَكَالَمْتُهُ، وَكَانَا مُتَصَارِمَيْنِ فَصَارَا يَتَكَالَمَانِ، وَمُوسَى كَلِيمُ اللهِ، وَنَطَقَ بِكَلِمَةٍ فَصِيحَةٍ وَبِكَلِمَاتٍ فِصَاحٍ وَبِكَلْمٍ اهـ.
فَلِكَلَامِ الْإِنْسَانِ صِفَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ فِي نَفْسِهِ يُنَاجِيهَا بِهَا، وَيُصَوِّرُ فِيهَا مَا يُنَظِّمُهُ أَوْ يُقَدِّرُهُ وَيُزَوِّرُهُ؛ لِيُخَاطِبَ بِهِ غَيْرَهُ، وَصِفَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ فِي لِسَانِهِ، وَصِفَةٌ أَوْ صُورَةٌ فِيمَا يَرْسُمُهُ بِقَلَمِهِ عَلَى الْوَرَقِ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِيمَا يُحَرِّكُ بِهِ آلَةَ التِّلِغْرَافِ السِّلْكِيِّ أَوْ غَيْرِ السِّلْكِيِّ مُخَاطِبًا لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِي الْهَوَاءِ تَحْدُثُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ زَمَنًا قَصِيرًا، وَقِيلَ إِنَّهُ أَطْوَلُ مِمَّا يُظَنُّ، وَصُورَةٌ أُخْرَى فِيمَا يَنْقُشُهُ الْمَكْرَفُونُ فِي لَوْحِ آلَةِ الْفُونُغْرَافِ تَكُونُ مَحْفُوظَةً فِيهِ إِلَى أَنْ تُعِيدَهُ الْآلَةُ كَمَا أُلْقِيَ فِيهَا صَوْتًا مُؤَلَّفًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي.
وَكَلَامُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يُنْشِئُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقَةٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَيُنْقَلُ عَنْ قَلِيلٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنَّهُمْ قَدْ يُؤَدُّونَ بَعْضَ كَلَامِهِمُ الَّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى بَعْضِ الْمُسْتَعِدِّينَ بِقُوَّةِ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَطَّلِعُونَ عَلَى بَعْضِ
مَا يَجُولُ فِي أَنْفُسِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ، فَمَنْ لَمْ يَصْدُقْ هَذَا عَنْهُمْ فَلْيُعِدِ الِاعْتِبَارَ بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَمَهْمَا تَكُنِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي وَصَلَ بِهَا عَلْمُ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ يَصِيرُ مِثْلَهُ فِي تَصَوُّرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي تَصْوِيرِهِ لِغَيْرِهِ بِالْوَسَائِلِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا، مِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيَدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
أَلَا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهُ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute