إِنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ صِفَةٌ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تَلْمَحَهَا عَيْنُ وَاضِعِ اللُّغَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهَا وَخُصُوصِ حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا فِي الْعَالَمِ عِبَارَةٌ لِعُلُوِّ شَأْنِهَا، وَانْحِطَاطِ رُتْبَةِ وَاضِعِي اللُّغَاتِ عَنْ أَنْ يَمْتَدَّ طَرْفُ فَهْمِهِمْ إِلَى مَبَادِئِ إِشْرَاقِهَا،
فَانْخَفَضَتْ عَنْ ذُرْوَتِهَا أَبْصَارُهُمْ كَمَا تَنْخَفِضُ أَبْصَارُ الْخَفَافِيشِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ، لَا لِغُمُوضٍ فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي أَبْصَارِ الْخَفَافِيشِ، فَاضْطَرَّ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَبْصَارُهُمْ لِمُلَاحَظَةِ جَلَالِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ عَالَمِ الْمُتَنَاطِقِينَ بِاللُّغَاتِ عِبَارَةً تَفْهَمُ مِنْ مَبَادِئِ حَقَائِقِهَا شَيْئًا ضَعِيفًا جِدًّا، فَاسْتَعَارُوا لَهَا اسْمَ الْقُدْرَةِ، فَتَجَاسَرْنَا بِسَبَبِ اسْتِعَارَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ، فَقُلْنَا: لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ هِيَ الْقُدْرَةُ، عَنْهَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ وَالِاخْتِرَاعُ " ثُمَّ ذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ وَالرِّضَا وَالْغَضَبَ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُسَمُّونَهُ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَمَا يُسَمُّونَهُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَأَوَّلُهَا أَصْحَابُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ تَحَكُّمًا مِنْهُمْ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ لَنَا كَلَامًا هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِنَا، وَشَأْنٌ مِنْ شِئُونِنَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُنَا، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنِ انْكِشَافِ الْمَعْلُومَاتِ لِلنَّفْسِ، وَتَعَلُّقَ الْكَلَامِ عِبَارَةٌ عَنْ كَشْفِهَا وَتَصْوِيرِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي النَّفْسِ أَوْ لِمَنْ نُرِيدُ كَشْفَهَا لَهُ، تَقُولُ: حَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِكَذَا، وَقُلْتُ فِي نَفْسَيْ كَذَا، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، " وَكُنْتُ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً " يَعْنِي: هَيَّأْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا لِأَقُولَهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
عِنْدِي حَدِيثٌ أُرِيدُ الْيَوْمَ أَذْكُرُهُ ... وَأَنْتَ تَعْلَمُ دُونَ النَّاسِ فَحْوَاهُ
وَأَمَّا أَدَاءُ الْكَلَامِ لِمَنْ نُرِيدُ إِعْلَامَهُ بِبَعْضِ مَا نَعْلَمُ فَلَهُ طُرُقٌ أَعَمُّهَا تَعْبِيرُ اللِّسَانِ، وَيَلِيهِ تَعْبِيرُ الْقَلَمِ، وَالْأَوَّلُ غَرِيزَةٌ فِي النُّطْقِ خَاصٌّ بِالْبَشَرِ بِمُقْتَضَاهَا تَوَاضَعُوا عَلَى الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِي الْمَعْلُومَاتِ، فَاتَّسَعَتْ بِقَدْرِ اتِّسَاعِ دَائِرَةِ عُلُومِهِمْ، وَالثَّانِي صِنَاعَةٌ هَدَاهُمُ اللهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ بِشُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى إِيصَالِ مَعْلُومَاتِهِمْ إِلَى الْبَعِيدِ عَنْهُمُ الَّذِي لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُمُ اللِّسَانِيِّ، وَإِلَى حِفْظِهَا لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ، وَقَدِ اسْتَحْدَثُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ آلَةَ الْخِطَابِ الْبَعِيدِ بِاللِّسَانِ سُمَّوْهَا (التِّلِيفُونَ) وَسَمَّيْنَاهَا (الْمِسَرَّةَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - تُوَّصِلُ الْكَلَامَ مَنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَمِنْ بَلَدٍ أَوْ قُطْرٍ إِلَى آخَرَ بِأَسْلَاكٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ آلَاتِ الْمُتَخَاطِبِينَ، وَقَدِ اسْتَغْنَوْا أَخِيرًا عَنْ هَذِهِ الْأَسْلَاكِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَاسْتَحْدَثُوا آلَةً لِحِفْظِ الْأَصْوَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَإِعَادَتِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا سُمَّوْهَا (الْفُونُغْرَافَ) وَكَانُوا اسْتَحْدَثُوا قَبْلَ ذَلِكَ آلَةً لِنَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْبِلَادِ
وَالْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَسْلَاكٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute