للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ " وَإِذَا ثَبَتَتْ صِفَةُ الْوَجْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالنُّصُوصِ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْيَدَيْنِ وَالضَّحِكِ وَالْعَجَبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَلِيقُ بِاللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبِعَظَمَتِهِ لَا مَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، تَعَالَى الله عَنْ تِلْكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

(ثُمَّ قَالَ) : وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَتُسَاقُ هَذَا الْمَسَاقَ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَبِجَمِيعِ حُرُوفِهِ فَقَالَ - تَعَالَى -: الم وَقَالَ: المص وَقَالَ: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " فَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قُرْبٍ " وَفِي الْحَدِيثِ " لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، لَامٌ حَرْفٌ، مِيمٌ حَرْفٌ " فَهَؤُلَاءِ مَا فَهِمُوا مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا مَا فَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، فَقَالُوا: إِنْ قُلْنَا بِالْحُرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَارِحِ وَالْلَهَوَاتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا

قُلْنَا بِالصَّوْتِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَلْقِ وَالْحَنْجَرَةِ، عَمِلُوا فِي هَذَا مِنَ التَّخَبُّطِ كَمَا عَمِلُوا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ.

" وَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ تَكَلَّمَ بِالْحُرُوفِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ وَالْقَادِرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوَارِحَ، وَلَا إِلَى لَهَوَاتٍ، وَكَذَلِكَ لَهُ صَوْتٌ كَمَا يَلِيقُ بِهِ يَسْمَعُ وَلَا يَفْتَقِرُ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْمُقَدَّسُ إِلَى الْحَلْقِ وَالْحَنْجَرَةِ: كَلَامُ اللهِ - تَعَالَى - يَلِيقُ بِهِ وَصَوْتُهُ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا نَنْفِي الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ عَنْ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ لِافْتِقَارِهِمَا مِنَّا إِلَى الْجَوَارِحِ وَالْلَهَوَاتِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى لَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ لَهُ وَيَسْتَرِيحُ الْإِنْسَانُ بِهِ مِنَ التَّعَسُّفِ وَالتَّكَلُّفِ بِقَوْلِهِ: هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ.

" فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ هُوَ عَيْنُ قِرَاءَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَيْنُ تَكَلُّمِهِ هُوَ؟ قُلْنَا لَا؛ بَلِ الْقَارِئُ يُؤَدِّي كَلَامَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُؤَدِّيًا مُبَلِّغًا، وَلَفْظُ الْقَارِئِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَفِي الْقُرْآنِ لَا يَتَمَيَّزُ اللَّفْظُ الْمُؤَدِّي عَنِ الْكَلَامِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ، وَلِهَذَا مَنَعَ السَّلَفُ عَنْ قَوْلِ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ " لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ، كَمَا مَنَعُوا عَنْ قَوْلِ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " فَإِنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ مَخْلُوقٌ، وَفِي التِّلَاوَةِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ كَيْلَا يُؤَدِّيَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَمَا أَمَرَ السَّلَفُ بِالسُّكُوتِ عَنْهُ؛ يَجِبُ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ.

(يَقُولُ مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : إِنَّ لَدَيْنَا فِي تَقْرِيبِ صِفَةِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَفْهَامِ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَشُئُونِهِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ مُسْتَعَارٌ مِمَّا وَضَعَهُ النَّاسُ فِي اللُّغَةِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَنَفْهَمُ بِهَذِهِ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَنَعْرِفُ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا الْمُبَايَنَةُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ ذَلِكَ تَعْبِيرًا بَلِيغًا فِي قَوْلِهِ مِنْ كِتَابِ الشُّكْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ:

"

<<  <  ج: ص:  >  >>