مَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَصُنْعِهِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بِأَمْرِهِ وَوَحْيِهِ، سَوَاءً كَانَ الْكَاتِبُ لَهَا مُوسَى أَوِ الْمَلَكُ (- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْأَلْوَاحَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّوْرَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ كَانَتْ قَبْلَ التَّوْرَاةِ،
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ وَحْيِ التَّشْرِيعِ فَكَانَتْ أَصْلَ التَّوْرَاةِ الْإِجْمَالِيَّ، وَكَانَتْ سَائِرُ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ تَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَيُخَاطِبُهُ الرَّبُّ تَعَالَى بِهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَالْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَلْوَاحِ فَقِيلَ كَانَتْ عَشْرَةً، وَقِيلَ: سَبْعَةً، وَقِيلَ: اثْنَيْنِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي اللُّغَةِ لِلَّوْحَيْنِ أَلْوَاحٌ، وَهَذَا كُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ خِلَافِهِمْ فِيهَا، وَأَمَّا تِلْكَ الرِّوَايَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي جَوْهَرِهَا مِقْدَارُهَا وَطُولُهَا وَعَرْضُهَا وَكِتَابَتُهَا وَمَا كُتِبَ فِيهَا؛ كُلُّهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي بَثَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَاغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ، وَقَدْ لَخَّصَ السُّيُوطِيُّ مِنْهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ ثَلَاثَ وَرَقَاتٍ - أَيْ: سِتَّ صَفَحَاتٍ - وَاسِعَاتٍ مِنَ الْقِطَعِ الْكَبِيرِ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى دُرَّةً، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا أَنَّ الْأَلْوَاحَ مِنَ الْيَاقُوتِ أَوْ مِنَ الزُّمُرُّدِ أَوْ مِنَ الزَّبَرْجَدِ، كَمَا أَنَّ مِنْهَا أَنَّهَا مِنَ الْحَجَرِ وَمِنَ الْخَشَبِ، وَقَدْ تَبِعَ فِي هَذَا عُمْدَتَهُ فِي التَّفْسِيرِ ابْنَ جَرِيرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ - تَعَالَى -، وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضَهَا الْأَلُوسِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: اصْطَحَبَ قَيْسُ بْنُ خَرَشَةَ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ حَتَّى إِذَا بَلَغَا صِفِّينَ وَقَفَ كَعْبٌ ثُمَّ نَظَرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَيُهْرَاقَنَّ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ لَا يُهْرَاقُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، فَقَالَ قَيْسٌ مَا يُدْرِيكَ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، فَقَالَ كَعْبٌ: مَا مِنَ الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، مَا يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأَلُوسِيُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَوْسَعِ مَا يَحْمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْعُمُومِ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَوْضُوعٌ عَلَى كَعْبٍ، وَإِنْ كُنْتُ أُخَالِفُ الْجُمْهُورَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْدِيلِهِ، وَتَأَوَّلَ الْأَلُوسِيُّ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ الظَّاهِرَ بُطْلَانُهُ بِالْبَدَاهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرَّمْزِ كَمَا نَدَّعِيهِ فِي الْقُرْآنِ اهـ.
وَمَا ذَكَرْتُ هَذَا إِلَّا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ فِتْنَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ إِلَى أَيِّ حَدٍ وَأَيِّ زَمَنٍ وَصَلَ تَأْثِيرُهَا السَّيْءِ، حَتَّى إِنَّ هَذَا النَّقَّادَةَ قَدِ اغْتَرَّ بِمِثْلِ هَذَا مِنْهَا، وَتَأْوِيلُهُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ مِثْلُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَدُّ بِعِلْمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَوْ فِي الْأَرْضِ شِبْرٌ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ فِيهِ (أَيِ: الْقُرْآنِ) مَا يَقَعُ فِيهِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْمُجَازِفِينَ
وَالْخَيَالِيِّينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَشْفِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (٩: ٣٨) فِي ٣٢٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ.
هَذَا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ فِي شَأْنِ الْأَلْوَاحِ فَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute