للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي قِصَّتِهِمْ، وَمُنَاسِبَةٌ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً أَنَّهَا بَيَانٌ لِجَرَيَانِ سُنَّةِ اللهِ الْعَامَّةِ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ، وَانْطِبَاقِهَا عَلَى الْيَهُودِ عَامَّةً، بَعْدَ بَيَانِ عِقَابِهِ تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ تَأَذَّنَ صِيغَةُ " تَفَعَّلَ " مِنَ الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ الَّذِي يُبَلِّغُ فَيُدْرِكُ بِالْآذَانِ، وَيَتَضَمَّنُ هُنَا تَأْكِيدَ الْقَسَمِ، وَمَعْنَى الْعَهْدِ الْمَكْتُوبُ الْمُلْتَزَمُ، بِدَلِيلِ مَجِيءِ لَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ فِي جَوَابِهِ، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْعَامُّ إِذْ أَعْلَمَ رَبُّكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُ قَدْ قَضَى فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وِفَاقًا لِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ سُنَنِهِ، لَيَبْعَثَنَّ وَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَيْ يُرِيدُهُ وَيُوقِعُهُ بِهِمْ، عِقَابًا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَوَّمَ الشَّيْءَ، كَمَا يُقَالُ سَامَهُ خَسْفًا. وَسُوءُ الْعَذَابِ مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ وَيُذِلُّهُ، وَهُوَ هُنَا سَلْبُ الْمِلْكِ، وَإِخْضَاعُ الْقَهْرِ.

مِصْدَاقُ هَذَا وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (١٧: ٤) إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (١٧: ٧) ثُمَّ قَالَ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا (١٧: ٨) الْآيَةَ أَيْ وَإِنْ عُدْتُمْ بَعْدَ عِقَابِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ إِلَى الْإِفْسَادِ، عُدْنَا إِلَى التَّعْذِيبِ وَالْإِذْلَالِ، وَقَدْ عَادُوا فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى فَسَلَبُوا مُلْكَهُمُ الَّذِي أَقَامُوهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ مِنَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ، وَقَهَرُوهُمْ وَاسْتَذَلُّوهُمْ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَعَادَاهُ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا هَرَبُوا مِنَ الذُّلِّ وَالنَّكَالِ، وَلَجَئُوا إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَعَاشُوا فِيهَا أَعِزَّاءَ آمِنِينَ، وَلَمْ يَفُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ إِذْ أَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، بَلْ غَدَرُوا بِهِ وَكَادُوا لَهُ، وَنَصَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، فَسَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ فَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَجْلَى بَعْضَهُمْ، وَقَتَلَ بَعْضًا، وَأَجْلَى عُمَرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، ثُمَّ فَتَحَ عُمَرُ سُورِيَّةَ، بَعْضَهَا بِالصُّلْحِ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْضَهَا عَنْوَةً، فَصَارَ الْيَهُودُ مِنْ سِيَادَةِ الرُّومِ الْجَائِرَةِ الْقَاهِرَةِ فِيهَا إِلَى سُلْطَةِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلُّوا أَذِلَّةً بِفَقْدِ الْمُلْكِ وَالِاسْتِقْلَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنِ اسْتِعَادَةِ مُلْكِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ.

إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ لِلْأُمَمِ الَّتِي تَفْسُقُ عَنْ أَمْرِهِ وَتُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَتَخَلَّفُ عِقَابُهُ عَنْهَا كَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٧: ١٦) أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ، وَأَفْسَدُوا وَظَلَمُوا فِي الْأَرْضِ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ، فَحَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ عَلَى الْفَوْرِ.

وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ تَابَ عَقِبَ الذَّنْبِ، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ أَفْسَدَ فِي

الْأَرْضِ، قَبْلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>