أَوْ أُكُلٍ " (بِضَمَّتَيْنِ) أَفَادَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مِمَّا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ. وَلَوْ قَالَ: مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ أَوْ أُكُلٌ - لَصَدَقَ بِانْتِفَاءِ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مِمَّا يُقَدَّمُ عَادَةً لِمَنْ يُرِيدُ الْغَدَاءَ أَوِ الْعَشَاءَ مِنْ خُبْزٍ وَإِدَامٍ، فَإِنْ كَانَ لَدَى الْقَائِلِ بَقِيَّةٌ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَائِدَةِ أَوْ قَلِيلٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ لَا يَكُونُ كَاذِبًا وَالْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ هُنَا - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ نَوْعٌ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا لِرَجَاءِ النَّفْعِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْهُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَجْلِ تَوَسُّطِهِ وَشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى - بَلِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ " غَيْرِهِ " بِالْكَسْرِ عَلَى الصِّفَةِ لِلَفْظِ " إِلَهٍ " وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ.
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هَذَا إِنْذَارٌ مُسْتَأْنَفٌ عُلِّلَ بِهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَدْنَى شَوَائِبِ الشِّرْكِ بِهَا، وَبَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِالرِّسَالَةِ. أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِذَا لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْعِبَادَ وَيُجَازِيهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الطُّوفَانِ، وَيَضْعُفُ بِأَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بَلْ بَعْدَ طُولِ الْإِبَاءِ وَالرَّدِّ وَالْوُصُولِ مَعَهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْيَأْسِ الْمُبَيَّنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَتِهِ حِكَايَةً عَنْهُ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي
إِلَّا فِرَارًا) (٧١: ٥، ٦) الْآيَاتِ وَبِقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١١: ٣٦) الْآيَاتِ - إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ الْعَظِيمِ عَذَابُ الدُّنْيَا مُطْلَقًا.
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الْمَلَأُ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رُوَاءً بِمَا يَكُونُ عَادَةً مِنْ تَأَنُّقِهِمْ بِالزِّيِّ الْمُمْتَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّمَائِلِ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ لِنُوحٍ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ بَيِّنٍ ظَاهِرٍ، بِنَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَةِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ، الَّذِينَ هُمْ وَسِيلَتُنَا وَشُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقْبَلُنَا بِبَرَكَتِهِمْ. وَيُعْطِينَا سُؤَالَنَا بِوَسَاطَتِهِمْ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، وَنَحْنُ لَا نَرَى أَنْفُسَنَا أَهْلًا لِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِنَا، لِمَا نَقْتَرِفُهُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تُبْعِدُنَا عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ الْأَقْدَسِ بِغَيْرِ شَفِيعٍ وَلَا وَسِيطٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ. حَكَمُوا بِضَلَالِهِ وَأَكَّدُوهُ بِالتَّعْبِيرِ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِإِنَّ وَاللَّامِ وَبِالظَّرْفِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْإِحَاطَةِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ مُحِيطَةٍ بِكَ لَا تَهْتَدِي مَعَهَا إِلَى الصَّوَابِ سَبِيلًا. وَذَلِكَ لِمَا رَأَوْهُ عَلَيْهِ مِنَ الثِّقَةِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) نَادَاهُمْ بِاسْمِ الْقَوْمِيَّةِ مُضَافَةً إِلَيْهِ ثَانِيَةً تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ وَلَا لَهُمْ إِلَّا الْخَيْرَ، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِقَ بِهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمَّى ضَلَالَةً، كَمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute