مِنَ النَّوْعَيْنِ نَطَقَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ مَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْجَمْعِ لَهُمْ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي آيَاتٍ، وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٤: ٢١) وَإِنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفَرَحِ بِهِ فَهُوَ يَرُدُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ((فَضْلُ اللهِ الْقُرْآنُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ)) وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ (إِحْدَاهُمَا) إِنَّ فَضَلَّ اللهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتَهُ: الْإِسْلَامُ وَ (الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْفَضْلَ: الْعِلْمُ، وَالرَّحْمَةَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالضِّحَاكِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ، فَضْلُ اللهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا فِي رِوَايَتِهَا. وَأَظْهَرُهَا فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهَا وَالْجَامِعُ لِمَعَانِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، أَنَّ فَضْلَ اللهِ: تَوْفِيقُهُ إِيَّاهُمْ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ
وَالشِّفَاءِ وَالْهُدَى الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ ثَمَرَتُهَا الَّتِي فَضَلُوا بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ فَكَانُوا أَرْحَمَهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَلَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ بِالْبَرِّ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْقِسْطِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَأَمْرَهُمْ بِالرَّحْمَةِ حَتَّى فِي الْمُحَارِبِينَ لَهُمْ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ شَرَّهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْمَقْصِدِ الثَّامِنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ هَذَا التَّنَاسُبِ لَقُلْتُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (٢: ١٤٣) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٣٠: ١١٠) الْآيَةَ وَلَكِنْ مَا قَلْتُهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَيُوَافِقُهُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَالْفَرَحُ كَالسُّرُورِ: انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ بِنِعْمَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ يَلَذُّ الْقَلْبَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ وَضِدَّهُمَا الْأَسَى وَالْحُزْنُ وَهُمَا مِنَ الْوِجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ لَا يُمْدَحَانِ وَلَا يُذُمَّانِ لِذَاتِهِمَا، بَلْ حُكْمُهُمَا حُكْمُ سَبَبِهِمَا أَوْ أَثَرِهِمَا فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهِمَا، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى هُنَا بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَرَحِ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (٣٠: ٤، ٥) وَهَذَا فَرَحٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا) (٣٠: ٣٦) وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (١٣: ٣٦) الْآيَةَ.
وَذَمَّ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ بِالْبَاطِلِ وَفَرَحَ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ بِالْمَالِ وَمَتَاعِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مَعْرُوفَةٍ. وَجَعَلَ الِاعْتِدَالَ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْأَسَى وَالْحُزْنِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَرْبِيَتِهِمْ بِالْمَصَائِبِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (٥٧: ٢٣)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute