للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِمَنْ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَعَالَى بِنَصِّ كِتَابِهِ، كَالتَّحْرِيمِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، أَوْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ غَيْرِ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ: لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ فِي شَيْءٍ إِنَّهُ حَرَامٌ إِلَّا مَا كَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللهِ بِلَا تَفْسِيرٍ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوَاعِدُ أَشَرْنَا إِلَى ثَلَاثٍ مِنْهَا:

(الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ مِنَ الْأَرْزَاقِ نَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ يُحَرِّمُونَ أَكَلَ اللُّحُومَ، وَلَهُمْ عَلَى هَذَا شُبْهَتَانِ:

(الشُّبْهَةُ الْأُولَى) قَدِيمَةٌ وَهِيَ زَعْمُهُمْ أَنِّ أَكْلَ لَحْمِ الْحَيَوَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَذْكِيَتِهِ بِالذَّبْحِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ تَعْذِيبٌ مُسْتَقْبَحٌ عَقْلًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَهْلٌ، فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ تَعْذِيبًا وَرُبَّمَا كَانَتْ أَهْوَنَ مِنْ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ كَافْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ تَرَدٍّ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، أَوِ انْخِنَاقٍ بَيْنَ شَجَرَتَيْنِ مَثَلًا، أَوْ نِطَاحٍ، أَوْ وَقْذِ رَاعٍ قَاسٍ أَوْ مُتَعَدٍّ آخَرَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٣) أَكْلَ مَا مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَالَّذِي يَمُوتُ حَتْفِ أَنْفِهِ وَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ تَعْذِيبِ أَيِّ ذِي رُوحٍ وَحَثَّ عَلَى رَحْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَالذَّبْحُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُؤْلِمُ

الْحَيَوَانَ إِلَّا لَحْظَةً قَصِيرَةً، وَالْحَيَوَانَاتُ لَا تَشْعُرُ بِالْأَلَمِ بِقَدْرِ مَا يَشْعُرُ بِهِ الْبَشَرُ كَمَا قَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ.

(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) حَادِثَةٌ وَهِيَ مَا يَزْعُمُهُ النَّبَاتِيُّونَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْأَغْذِيَةَ النَّبَاتِيَّةَ عَلَى الْحَيَوَانِيَّةِ مِنْ كَوْنِ أَكْلِ اللُّحُومِ ضَارًّا لِلنَّاسِ، وَجَوَابُنَا عَنْهَا أَنَّهُمْ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ أَكْلَ اللَّحْمِ يَضُرُّ كُلَّ آكِلٍ مِنْهُمْ مُطْلَقًا فَهَذَا زَعْمٌ تُبْطِلُهُ التَّجَارِبُ وَيُنْكِرُهُ أَكْثَرُ أَطِبَّاءِ الْعَالَمِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَضُرُّ بَعْضَهُمْ كَأَصْحَابِ أَمْرَاضِ التَّرَفِ وَضِعَافِ الْمَعِدَةِ (كَالرَّئْيَةِ وَالنِّقْرِسِ) فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِالْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي الْمَضَارِّ الْحَظْرُ، وَمِنْهُ عَامٌّ وَخَاصٌّ.

(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ) أَنَّ تَشْرِيعَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الدِّينِيِّ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنَّ جَعْلَهُ لِغَيْرِهِ شِرْكٌ بِهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>