الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَكَذَا آلِهَتُهُمُ الْقَادِرُونَ بِخَصَائِصِهِمُ الْغَيْبِيَّةِ أَوْ بِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُونَ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِزَعْمِهِمْ، قَدْ عَجَزُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ وَاضْطَرُّوا إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيِّ بِالْقِتَالِ، وَمَا أَعْقَبَهُمْ مِنْ خَسَارَةِ الْمَالِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، ثُمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ احْتِمَالُ الذُّلِّ
وَالنَّكَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ عَزَمُوا عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَاسْتَعَدُّوا لَهَا فَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ (وَقِيلَ يَاأَرْضُ) فَتَضَاءَلَتْ قُوَاهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ وَرَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
عَرَفَ بُلَغَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِنَةِ فِي فَصَاحَتِهَا اللَّفْظِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ بُلَغَاءُ الْفُنُونِ بَعْدَهُمْ مِنْهَا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِمَا لِلْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الصُّورِيِّ فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَقَايِيسِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَوَازِينِ الْفَنِّيَّةِ وَدَرَجَاتِ الرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ. وَكَانَ أُولَئِكَ أَدَقَّ شُعُورًا بِمَا لِهَذَا الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْعُقُولِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْجَمَالِ الْبَدَنِيِّ فِي حِسَانِ النِّسَاءِ مَقَايِيسَ وَمَوَازِينَ لِتَنَاسُبِ الْأَعْضَاءِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا، وَالْعَدْلُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهَا، وَأَمَّا الْجَمَالُ الْمَعْنَوِيُّ - وَهُوَ خِفَّةُ الرُّوحِ وَسُلْطَانُ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ - فَلَيْسَ لَهُ مِقْيَاسٌ وَلَا مِيزَانٌ عَشْرِيٌّ يُضْبَطُ بِهِ وَزْنُهُ أَوْ مِسَاحَتُهُ فَيُعْرَفُ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْجَمَّالُ الْأَعْلَى بِمَلَكَةٍ نَفْسِيَّةٍ، لَا بِأَوْزَانٍ صِنَاعِيَّةٍ، كَمَا قَالَ الطَّيِّبُ فِي الْخَيْلِ:
إِذَا لَمْ تُشَاهِدْ غَيْرَ حُسْنِ شِيَاتِهَا وَأَعْضَائِهَا فَالْحُسْنُ عَنْكَ مُغَيَّبُ
وَإِنَّمَا أَحْدَثَ الْقُرْآنُ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مَا أَحْدَثَ مِنَ الثَّوْرَةِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِانْقِلَابِ الْعَالَمِيِّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي مِنْ إِدْرَاكِ بَلَاغَتِهِ لَا الْأَوَّلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي بَابِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ فِي الثَّانِي لَيَشْغَلُ الْمُفَسِّرَ وَالْمُتَدَبِّرَ عَنِ الْأَوَّلِ الْخَاصِّ مِنْهُ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَلِهَذَا نَقْتَصِرُ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِنَا عَلَى مَا قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ بِاخْتِصَارٍ لَا يَشْغَلُ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ، وَلِهَذَا جَعَلْتُ مَا أَحْبَبْتُ بَيَانَهُ فِي بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْفَنِّيَّةِ عِلَاوَةً مِنْ هَذِهِ الْعِلَاوَاتِ، وَقَدْ أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَخِصَّائِيُّونَ فِيهَا حَتَّى أَفْرَدَهَا بَعْضُهُمْ بِمُصَنَّفَاتٍ خَاصَّةٍ، وَتَكَلَّمَ صَاحِبُ (الطِّرَازِ فِي عُلُومِ الْإِعْجَازِ) عَلَيْهَا فِي ٢٥ صَفْحَةً، وَلَعَلَّهُ أَحْسَنُهُمْ فِيهَا كَلَامًا،
وَإِنْ كَانَ السَّكَّاكِيُّ هُوَ السَّابِقُ إِلَيْهِ، وَكُلُّهُمْ فِيهِ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً أَوْ وَسَطًا مِنْهُ أَنْقُلُ مِنْهَا هُنَا مَا لَخَّصَهُ السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي ((رُوحِ الْمَعَانِي)) مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَغَيْرِهِ بِتَصَرُّفٍ كَعَادَتِهِ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute