((وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَدْ بَلَغَتْ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِعْجَازِ أَقَاصِيَهَا، وَاسْتَذَلَّتْ مَصَاقِعَ الْعَرَبِ فَسَفِعَتْ بِنَوَاصِيهَا، وَجَمَعَتْ مِنَ الْمَحَاسِنِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَكَانَتْ مِنْ سَمْهَرِيِّ الْبَلَاغَةِ مَكَانَ السِّنَانِ.
((يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَصَدُوا أَنْ يُعَارِضُوا الْقُرْآنَ فَعَكَفُوا عَلَى لُبَابِ الْبُرِّ وَلُحُومِ الضَّأْنِ وَسُلَافِ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِتَصْفُوَ أَذْهَانُهُمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِيمَا قَصَدُوهُ وَسَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فَتَرَكُوا مَا أَخَذُوا فِيهِ وَتَفَرَّقُوا.
وَيُرْوَى أَيْضًا أَنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ وَكَانَ - كَمَا فِي الْقَامُوسِ - فَصِيحًا بَلِيغًا، بَلْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْصَحُ أَهْلِ وَقْتِهِ، رَامَ أَنْ يُعَارِضَ الْقُرْآنَ فَنَظَمَ كَلَامًا وَجَعَلَهُ مُفَصَّلًا وَسَمَّاهُ سُوَرًا، فَاجْتَازَ يَوْمًا بِصَبِيٍّ يَقْرَؤُهَا فِي مَكْتَبٍ فَرَجَعَ وَمَحَا مَا عَمِلَ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ أَبَدًا وَمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَدْعِي أَلَّا يَكُونَ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُعْجِزًا، لِمَا أَنَّ حَدَّ الْإِعْجَازِ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَلَا تَدْخُلُ عَلَى قُدْرَتِهِ قَطْعًا، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ الطَّرَفُ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ، أَعْنِي: مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبَلَاغَةُ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَجَاوُزُهَا إِيَّاهُ، وَالثَّانِي: مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الطَّرَفِ، أَعْنِي الْمَرَاتِبَ الْعَلِيَّةَ الَّتِي تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنْهَا أَيْضًا.
((وَمَعْنَى إِعْجَازِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ بِأَسْرِهَا، هُوَ كَوْنُهَا مِمَّا تَتَقَاصَرُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهَا فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ.
((وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضَ مَزَايَا هَذِهِ الْآيَةِ الْمَهَرَةُ الْمُتْقِنُونَ، وَتَرَكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَكَادُ يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِفَادَةً لِجَاهِلٍ، وَتَذْكِيرًا لِفَاضِلٍ غَافِلٍ، فَنَقُولُ:
جِهَاتُ بَلَاغَةِ الْآيَةِ الْأَرْبَعُ، أَوَّلُهَا جِهَةُ عِلْمِ الْبَيَانِ:
ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ السَّكَّاكِيُّ أَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ: مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَمِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُمَا مَرْجِعَا الْبَلَاغَةِ. وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْفَصَاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ، أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْبَيَانِ - وَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الْقَرِينَةِ وَالتَّرْشِيحِ وَالتَّعْرِيضِ - فَهُوَ أَنَّهُ - عَزَّ سُلْطَانُهُ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَعْنَى: أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا انْفَجَرَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا فَارْتَدَّ، وَأَنْ نَقْطَعَ طُوفَانَ السَّمَاءِ فَانْقَطَعَ، وَأَنْ نُغِيضَ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، وَأَنْ نَقْضِيَ أَمْرَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كُنَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute