وَعَدْنَاهُ مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِهِ فَقُضِيَ، وَأَنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَوَتْ، وَأَبْقَيْنَا الظَّلَمَةَ غَرْقَى - بَنَى سُبْحَانَهُ الْكَلَامَ عَلَى تَشْبِيهِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِالْمَأْمُورِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ - لِكَمَالِ هَيْبَتِهِ مِنَ الْآمِرِ - الْعِصْيَانُ، وَتَشْبِيهِ تَكْوِينِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ النَّافِذِ فِي تَكَوُّنِ الْمَقْصُودِ تَصْوِيرًا لِاقْتِدَارِهِ سُبْحَانَهُ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَابِعَةٌ لِإِرَادَتِهِ - تَعَالَى - إِيجَادًا وَإِعْدَامًا، وَلِمَشِيئَتِهِ فِيهَا تَغْيِيرًا وَتَبْدِيلًا، كَأَنَّهَا عُقَلَاءُ مُمَيِّزُونَ قَدْ عَرَفُوهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَاطُوا عِلْمًا بِوُجُوبِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ، وَالْإِذْعَانِ لِحُكْمِهِ، وَتَحَتَّمَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ عَلَيْهِمْ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ، وَتَصَوَّرُوا مَزِيدَ اقْتِدَارِهِ، فَعَظُمَتْ مَهَابَتُهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَضَرَبَتْ سُرَادِقَهَا فِي أَفْنِيَةِ ضَمَائِرِهِمْ، فَكَمَا يُلَوِّحُ لَهُمْ إِشَارَتَهُ - سُبْحَانَهُ - كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا، وَكَمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ - تَعَالَى شَأْنُهُ - كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُتَمَّمًا، لَا تَلَقِّيَ لِإِشَارَتِهِ بِغَيْرِ الْإِمْضَاءِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَا لِأَمْرِهِ بِغَيْرِ الْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ.
((ثُمَّ بَنَى عَلَى مَجْمُوعِ التَّشْبِيهَيْنِ نَظْمَ الْكَلَامِ فَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: (قِيلَ) عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَنِ الْإِرَادَةِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْقَوْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ هَذَا الْمَجَازِ خِطَابَ الْجَمَادِ وَهُوَ (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ حُصُولُ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْجَمَادِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ كَمَا تَرَى: (يَاأَرْضُ) (وَيَا سَمَاءُ) مُخَاطِبًا لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هُنَاكَ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ، حَيْثُ ذَكَرَ الْمُشَبَّهَ أَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ الْمُرَادَ مِنْهُمَا
حُصُولُ أَمْرٍ، وَأُرِيدَ الْمُشَبَّهُ بِهِ، أَعْنِي الْمَأْمُورَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْعِصْيَانُ ادِّعَاءً بِقَرِينَةِ نِسْبَةِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ وَدُخُولِ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ وَيَكُونُ هَذَا تَخْيِيلًا. وَقَدْ يُقَالُ: أَرَادَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ هَهُنَا تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً فِي حَرْفِ النِّدَاءِ بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْمُرَادِ مِنْهُ بِتَعَلُّقِ النِّدَاءِ وَالْخِطَابِ بِالْمُنَادَى الْمُخَاطَبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَا يَحْسُنُ هَذَا التَّشْبِيهُ ابْتِدَاءً، بَلْ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشَّبَهِ الْمَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذَا الْحَمْلَ.
((ثُمَّ اسْتَعَارَ لِغُئُورِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْبَلْعَ الَّذِي هُوَ إِعْمَالُ الْجَاذِبَةِ فِي الْمَطْعُومِ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ إِلَى مَقَرٍّ خَفِيٍّ. وَفِي الْكَشَّافِ: جَعْلُ الْبَلْعِ مُسْتَعَارًا لِنَشْفِ الْأَرْضِ الْمَاءَ هُوَ أَوْلَى، فَإِنَّ النَّشْفَ دَالٌّ عَلَى جَذْبٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِمَا عَلَيْهَا كَالْبَلْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّ النَّشْفَ فِعْلُ الْأَرْضِ، وَالْغُئُورَ فِعْلُ الْمَاءِ مَعَ الطِّبَاقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ تَعَدِّيًا.
ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمَاءَ لِلْغِذَاءِ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغِذَاءِ لِتَقَوِّي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ فِي الْإِنْبَاتِ لِلزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ تَقَوِّيَ الْآكِلِ بِالطَّعَامِ، وَجَعَلَ قَرِينَةَ الِاسْتِعَارَةِ لَفْظَةَ (ابْلَعِي) لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِعْمَالِ فِي الْغِذَاءِ دُونَ الْمَاءِ.
((وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهُ إِذَا اعْتُبِرَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي الِاسْتِعَارَةِ، يَكُونُ (ابْلَعِي)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute