لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا، إِمَّا مَعَ إِعَادَةِ الْقِيلِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ بِأَنْ يُقَالَ: ((يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)) وَلَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَسْأَلَةِ نُوحٍ وَوَلَدِهِ صَارَ مَانِعًا مِنَ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ وَمُقْتَضِيًا أَنْ تُذْكَرَ مَفْصُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنْ يُبْدَأَ بِفِعْلِ ((قِيلَ)) الْمَجْهُولِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ الْمَعْلُومُ.
(قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) أَيْ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ لِنُوحٍ؛ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، وَإِقْلَاعِ السَّمَاءِ عَنْ إِمْطَارِهَا، وَابْتِلَاعِ الْأَرْضِ لِمَائِهَا، وَإِمْكَانِ السُّكْنَى وَالْعَمَلِ عَلَى ظَهْرِهَا: يَا نُوحُ اهْبِطْ مِنَ السَّفِينَةِ أَوْ مِنَ الْجُودِيِّ الَّذِي اسْتَوَتْ عَلَيْهِ إِلَى الصَّفْصَفِ الْمُسْتَوِي مِنْهَا، مُلَابِسًا أَوْ مُزَوَّدًا وَمُمَتَّعًا بِسَلَامٍ مِنْ عَظَمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا الرَّبَّانِيَّةِ، وَهُوَ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِيهَا، (وَبَرَكَاتٍ) فِي الْمَعَايِشِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَائِضَةً (عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أَيْ: وَعَلَى مَنْ مَعَكَ الْآنَ فِي السَّفِينَةِ، وَعَلَى ذُرِّيَّاتٍ يَتَنَاسَلُونَ مِنْهُمْ وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونُونَ أُمَمًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُمْ مُمَتَّعُونَ بِهَذَا السَّلَامِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْبَرَكَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ لَفْظُ الْأُمَمِ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (٦: ٣٨) (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أَيْ: وَثَمَّ أُمَمٌ آخَرُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَرْزَاقِهَا وَبَرَكَاتِهَا دُونَ السَّلَامِ الرَّبَّانِيِّ، الْمَمْنُوحِ مِنَ الْأَلْطَافِ الرَّحْمَانِيِّ، لِسَلِيمِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ سَيُغْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ بِرَبِّهِمْ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى السَّلَامِ
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، الَّتِي نَبْعَثُ بِهَا الْمُرْسَلِينَ، كَمَا وَقَعَ لَكَ مَعَ قَوْمِكَ الْأَوَّلِينَ.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا الْفَصِيحَةِ نَصًّا وَاقْتِضَاءً، الْمُوَافِقُ لِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ، فَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ كَثْرَةَ الْآرَاءِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا، لَوْلَا كَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا، حَتَّى مَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ وَلَا الشَّرْعُ وَلَا الْعَقْلُ مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ مَجَامِعَ الْعِبْرَةِ فِيهَا.
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ الْمُفَصَّلَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ الْبَدِيعَ، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) الْمَاضِيَةِ (نُوحِيهَا إِلَيْكَ) أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مُتَمَّمًا وَمُفَصَّلًا لِمَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ قَبْلَهَا (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) الْوَحْيِ الَّذِي نَزَلَ مُبَيِّنًا لَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute