للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خُرُوجَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ عَوْدَتِهِ مِنْهَا. وَكَانَ مُوسَى عَلَى عِلْمٍ بِشَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ وَمَعَارِفِهِمْ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (١٢: ٢٢) وَلَمْ يَقُلْ: ((وَاسْتَوَى)) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَيْضًا، وَكَانَ الْعِلْمُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ يُوسُفُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ وَالرُّؤَى أَيِ الْإِخْبَارَ بِمَآلِهَا. وَقَالَ فِي يَحْيَى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٩: ١٢) وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِلْمٌ وَلَا حُكْمٌ فِي الْأُمُورِ، اللهُمَّ إِلَّا حُكْمُهُ فِي تَنَازُعِ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ عِنْدَ بِنَائِهِمُ الْكَعْبَةَ، أَيُّهُمْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ مِنَ الرُّكْنِ، وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ نُحَكِّمُهُ وَنَرْضَى بِحُكْمِهِ؛ أَيْ لِأَنَّهُ أَمِينٌ صَادِقٌ لَا يُحَابِي، فَحَكَمَ بِوَضْعِهِ فِي ثَوْبٍ يَأْخُذُ سَيِّدُ كُلِّ قَبِيلَةٍ نَاحِيَةً مِنْهُ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنَ الرُّكْنِ فَرَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَوَضَعَهُ فِيهِ. وَالْخَبَرُ مِنْ مَرَاسِيلِ السِّيَرِ لَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزَّهْرِيِّ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِكَلِمَةِ ((غُلَامٍ)) وَفِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّ سِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.

هَذِهِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ نَاهِضَةٌ، عَلَى بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمُ الدَّاحِضَةِ، الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُطَالَبَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ مَا أَيَّدَ دَلَالَتَهَا الْعِلْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ بِمَا حَذَقُوا عِلْمَ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَ الْبَشَرِ وَطِبَاعَهُمْ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ دَرَجَاتِ اسْتِعْدَادِهِمُ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِاسْتِقْرَاءِ تَارِيخِهِمْ، قَدْ حَقَّقُوا أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ الْعَقْلِيَّ لِلْعُلُومِ، وَاسْتِعْدَادَهُ النَّفْسِيَّ لِلنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ الْقَوْمِيَّةِ أَوِ الْعَالَمِيَّةِ، يَظْهَرُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعْدَادَيْنِ فِيهِ مَنْ أَوَائِلِ نَشْأَتِهِ، وَيَكُونُ فِي مُنْتَهَى الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ فِي الْعَقْدَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ عُمْرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ وَلَمْ يَظْهَرْ نُبُوغُهُ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَبَقَ اشْتِغَالُهُ بِهَا، وَلَا النُّهُوضُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانَ اسْتَشْرَفَ لَهَا، فَإِنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ

شَيْءٌ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ مِنْ بَعْدِهَا جَدِيدًا أُنُفًا وَيَكُونُ فِيهِ نَابِغًا نَاجِحًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَبَاحِثِ إِثْبَاتِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَمْحِيصِ الْحَقَائِقِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ قَامَ بِتَنْفِيذِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بِمَا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ، وَقَلَبَ أَحْوَالَ أَكْثَرِ أُمَمِهَا فَحَوَّلَهَا إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَضَاهَا فِي الْأُمِّيَّةِ. فَهَذَا الْعِلْمُ الْجَدِيدُ الَّذِي أَيَّدَ حُجَّةَ الْقُرْآنِ الْعَقْلِيَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، لَهُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ نَظَائِرُ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا كَثِيرًا مِنْهَا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَهُوَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّفَاسِيرِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ غَافِلِينَ عَنْهُ تَبَعًا لِغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، وَعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى هِدَايَتِهِ، بِصَدِّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْمُعَمَّمِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>