للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمَحْضُ، وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَمْ يُعْطِ رَسُولَهُ الْحَقَّ فِي تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ، فَمَا حُكْمُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يُبَدِّلُونَهُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِصِدْقِ وَعْدِهِ لِأَهْلِهِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ) (٤٨: ١٥) أَوْ بِتَرْكِ أَحْكَامِهِ لِمَذَاهِبِهِمْ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (٢: ١٨١) إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِنَفْيِ الشَّأْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ

إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَيَّ عِصْيَانٍ كَانَ، عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَصَيْتُهُ بِتَبْدِيلِ كَلَامِهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِكُمْ؟ وَقَوْلُهُ: إِنْ عَصَيْتُ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ، إِذِ الشَّرْطِيَّةُ الْمَبْدُوءَةُ بِـ ((إِنْ)) يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا شَأْنُهُ أَلَّا يَقَعَ. وَهَذَا جَوَابٌ عَنِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ.

ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ عَنِ الشَّقِّ الْأَوَّلِ مَفْصُولًا لِأَهَمِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أَيْ لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا أَتْلُوَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّمَا أَتْلُوهُ بِأَمْرِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ أَيْ وَلَوْ شَاءَ أَلَّا يُدْرِيَكُمْ وَيُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ لَمَا أَرْسَلَنِي وَلَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ الْأَعْلَى؛ لِتَدْرُوهُ فَتَهْتَدُوا بِهِ وَتَكُونُوا بِهِدَايَتِهِ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِهِ لَا بِقُرْآنٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٤: ١٦٦) وَقَالَ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ٥٢) (رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي ج ٨ تَفْسِيرٍ) فَهُوَ قَدْ أَنْزَلَهُ عَالِمًا بِأَنَّ فِيهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَأَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَأَمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَهُ (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ فَقَدْ مَكَثْتُ فِيمَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ سُورَةً مِنْ مِثْلِهِ وَلَا آيَةً تُشْبِهُ آيَاتِهِ، لَا فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَلَا فِي الْبَلَاغَةِ وَرَوْعَةِ الْبَيَانِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟ إِنَّ مَنْ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا كِتَابًا، وَلَمْ يُلَقَّنْ مَنْ أَحَدٍ عِلْمًا، وَلَمْ يَتَقَلَّدْ دِينًا، وَلَمْ يَعْرِفْ تَشْرِيعًا، وَلَمْ يُمَارِسْ أَسَالِيبَ الْبَيَانِ، فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ، وَلَا خَطَابَةٍ وَفَخْرٍ، وَلَا عِلْمٍ وَحِكَمٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لَكُمْ، بَلْ هُوَ يُعْجِزُ جَمِيعَ الْخَلْقِ حَتَّى الدَّارِسِينَ لِكُتُبِ الْأَدْيَانِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّارِيخِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؟ فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَيَّ إِذًا أَنْ آتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ؟ وَسَيَتَحَدَّاهُمْ فِي الْآيَةِ ٣٨ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ.

وَمِمَّا يَمْتَازُ بِهِ الْوَحْيُ الْمُحَمَّدِيُّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ، أَنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ نُبُوَّتِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْقَرِيبَةِ، وَفَاتَنَا فِيهَا

التَّذْكِيرُ بِمَا أُوتِيَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ الْوَهْبِيِّ قَبْلَهَا أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (٢٨: ١٤) وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ يَكُونُ فِي اسْتِكْمَالِ الثَّلَاثِينَ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>