التَّنْزِيلِ لِإِبْطَالِ حُجَجِ خُصُومِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْمُعَلِّقَ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ هُنَا أَخَصُّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَمْرَانِ: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُدْخَلُ الْكَرِيمُ. وَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنِ اشْتِرَاطِ شُرُوطٍ لِلِانْتِقَالِ مَنْ أَمْرٍ إِلَى ضِدِّهِ الْمُسَاوِي لِنَقِيضِهِ، أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ؟ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِحُصُولِ شُرُوطِهِ، وَإِقَامَةِ أَعْظَمِ أَرْكَانِهِ، وَلَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا؟ أَلَا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي حَالِ النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ نَفْسِهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَا حِجَابَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ مِمَّنْ صَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا وَأَرَادَ مَعْرِفَتَهَا بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْطِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَ التَّفَصِّي الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ هُوَ إِمَامُ الْجَدَلِيِّينَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَنَقَلَهُ الْآلُوسِيُّ عَازِيًا إِيَّاهُ إِلَى بَعْضِ جُلَّةِ الْأَفَاضِلِ، وَفَصَّلَهُ بِأَوْسَعَ مِمَّا قَالَهُ الرَّازِيُّ، فَأَرَدْنَا أَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ يَغْتَرُّونَ عَادَةً بِكُلِّ مَبَاحِثِ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ، وَالَّذِي دَعَا الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ إِلَى التَّفَصِّي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى انْتِفَاءِ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِانْتِفَاءِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ اسْتِشْكَالُهُ إِيَّاهُ بِالْفَقِيرِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُ، وَبِالْغَنِيِّ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ بِمُرُورِ الْحَوْلِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ فِي حَالِ عَدَمِ تَسْلِيمِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُكْتَفَى مِنْهُ بِأَنْ يُقِرَّ بِحُكْمِهَا وَيَلْتَزِمَهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا
الْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُشْتَرَطُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْإِذْعَانُ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَالِ، وَلِفَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالتَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَمَّا أَفْرَادُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا يُطَالَبُونَ بِكُلٍّ مِنْ فَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَرَضِيَّتِهِمَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِثْلُهُ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَكْفِي فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَبْلَ افْتِرَاضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ بِالْإِجْمَالِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ أَيْضًا وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) وَهُوَ لُغَوِيٌّ مَحْضٌ، أَنَّ لَفْظَ أَخٍ أَصْلُهُ أَخَوٌ وَمُثَنَّاهُ أَخَوَانِ، وَفِي لُغَةٍ: أَخَانِ. وَيُجْمَعُ عَلَى إِخْوَةٍ وَإِخْوَانٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ الْقَرِيبِ، أَيِّ الْأُخُوَّةِ مِنْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَالنَّسَبِ الْبَعِيدِ كَالْجِنْسِ وَالْقَبِيلَةِ، وَفِي أُخُوَّةِ الرَّضَاعِ، وَأُخُوَّةِ الدِّينِ، وَأُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ، وَقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِخْوَانِ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ وَمِثْلِهَا فِي الْمَوَالِي فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَجَاءَ فِي أُخُوَّةِ الْكُفْرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (٥٩: ١١) إِلَخْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute