للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَبُوكَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَفِي أَثْنَائِهِ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ) ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ تَبْلِيغِهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْخَوَارِجِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ بِجَعْلِ الضَّمَائِرِ فِيهَا رَاجِعَةً إِلَى الَّذِينَ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِلَخْ. وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ: فَقَاتِلُوهُمْ. فَوَضَعَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ إِذَا نَكَثُوا فِي حَالِ الشِّرْكِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا وَطَرْحًا لِعَادَاتِ الْكِرَامِ الْأَوْفِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ آمَنُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَصَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَنَكَثُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَعَدُوا يَطْعَنُونَ فِي دِينِ اللهِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ دِينُ مُحَمَّدٍ بِشَيْءٍ، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَذَوُو الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهِ، لَا يَشُقُّ كَافِرٌ غُبَارَهُمْ. وَقَالُوا: إِذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا جَازَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْقُودٌ مَعَهُ عَلَى أَلَّا يَطْعَنَ، فَإِذَا طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَهُ وَخَرَجَ مِنَ الذِّمَّةِ اهـ.

وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمُ الدَّجَّالُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَصْحَابِ الْعُهُودِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِهِمْ. فَكُلُّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ عَدَاوَتِهِمْ بِنَكْثِ عُهُودِهِمْ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِمْ فَيَجِبُ عَدُّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُمْ أَهْلًا لِعَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ أَعْدَى وَأَظْلَمُ مِمَّنْ يَنْكُثُونَ الْأَيْمَانَ، وَذَلِكَ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْجَامِعَيْنِ بَيْنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى شُعُوبِنَا وَبِلَادِنَا، وَبَثِّ الدُّعَاةِ فِيهَا لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا، لِصَدِّنَا عَنْهُ، وَاسْتِبْدَالِ دِينِهِمْ بِهِ أَوْ جَعْلِنَا مُعَطَّلِينَ لَا دِينَ لَنَا.

وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ أَيْ: إِنَّ عُهُودَهُمْ كَلَا عُهُودَ؛ لِأَنَّهَا مُخَادَعَةٌ لِسَانِيَّةٌ لَمْ يَقْصِدُوا الْوَفَاءَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (٤٨: ١١) فَهُمْ يَنْقُضُونَهَا فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ يَسْتَطِيعُونَ فِيهَا ذَلِكَ بِالظُّهُورِ أَوِ الْمُظَاهَرَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " إِيمَانَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرُ آمَنَهُ إِيمَانًا بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْأَمَانِ. وَقَرَأَ هُوَ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ (أَئِمَّةَ) بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَلْبُهَا يَاءً فَلَيْسَ قِرَاءَةً وَلَا لُغَةً، بَلْ هُوَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ. كَمَا قَالُوا: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: قَاتِلُوهُمْ رَاجِينَ بِقِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَنْ نَكْثِ أَيْمَانَهُمْ، وَنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَالضَّرَاوَةِ بِقِتَالِكُمْ كُلَّمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ أَوْ إِرَادَةَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مِنْ سَلْبٍ وَكَسْبٍ وَانْتِقَامٍ مَحْضٍ بِالْأَوْلَى، وَتَقَدَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>