للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ الْآيَةَ الْكُبْرَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نُبُوَّتِهِ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّهَا لَآيَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ فَعَجَزُوا، وَاحْتَجَّ

عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِبَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ. وَمِمَّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " فَاكْتَفَى فِيهَا بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ ": (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩: ٤٧ - ٥١) فَالْقُرْآنُ فِي جُمْلَتِهِ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَفِي تَفْصِيلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ، وَهِيَ دَائِمَةٌ لَا تَزُولُ كَمَا زَالَتِ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ كَعَصَا مُوسَى مَثَلًا، عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ كَمَا كَانَتْ آيَةُ مُوسَى الْكُبْرَى خَاصَّةً بِمَنْ رَآهَا فِي عَصْرِهِ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الرِّسَالَةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الرِّسَالَةِ عِلْمِيٌّ، فَهُوَ عِلْمٌ مُوحَى بِهِ غَيْرُ مَكْسُوبٍ يُقْصَدُ بِهِ هِدَايَةُ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، فَظُهُورُ عُلُومِ الْهِدَايَةِ عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ كَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ كُلِّ عِلْمٍ بِعِبَارَةٍ أَعْجَزَتْ بِبَلَاغَتِهَا قَوْمَهُ كَمَا أَعْجَزَتْ غَيْرَهُمْ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مَعْدُودًا مِنْ بُلَغَائِهِمْ - أَدَلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَصَا مُوسَى عَلَى كَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ مُوحًى بِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهِيَ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ نَشَأَ مَنْ جَاءَ بِهَا فِي دَارِ مَلِكٍ أَرْبَى عَلَى سَائِرِ مَمَالِكِ الْأَرْضِ بِالْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ.

فَالْآيَةُ الْعِلْمِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهَا كَالْمِرَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ غَرِيبٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ يَشْتَبِهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ النَّادِرَةِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ خُفْيَةٌ كَالسِّحْرِ وَغَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ عَادِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِآيَةٍ أَوْ أُعْجُوبَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ حَالِمٍ وَأَمْرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لَا يُسْمَعُ لَهُ، بَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالزَّيْغِ. فَالْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ إِذًا لَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ كُلِّ مَنْ تَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَبِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَأَمَّا طَلَبُهُمْ لِلْآيَةِ وَالْآيَاتِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، فَسَبَبُهُ مُحَاوَلَةُ تَعْجِيزِ

الرَّسُولِ لَا كَوْنُهُ هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَرَوْنَهُ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَدْلُولِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) وَقَالَ فِي أَوَّلِ " سُورَةِ الْقَمَرِ ": (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٥٤: ٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>