للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التَّصْدِيقِ يَقْبَلُ الْقُوَّةَ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ لِلْفَرْقِ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ يَقِينِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَرْبَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَيَقِينِ آحَادِ الْأُمَّةِ، وَضَرَبَ الْغَزَّالِيُّ مَثَلًا لِتَفَاوُتِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ بِمَنْ يَرَى شَبَحَ إِنْسَانٍ فِي السُّدْفَةِ، ثُمَّ يَرَاهُ بَعْدَ وُضُوحِ الْإِسْفَارِ عَلَى بُعْدٍ فَلَا يُمَيِّزُ صِفَاتِهِ ثُمَّ يَرَاهُ فِي نُورِ الشَّمْسِ بِجَانِبِهِ، فَهَلْ يَكُونُ عِلْمُهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَاحِدًا؟ .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ هَذَا الْآيَةِ وَآيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي وَصْفِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ إِذْ دَعَاهُمْ إِلَى الْقِتَالِ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمُ الْقُرْحُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (٣: ١٧٣) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٣٣: ٢٢) وَعَطْفُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ هُنَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِهِ إِيمَانَ الْقَلْبِ لَا الْعَمَلَ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَتْحِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ (٤٨: ٤) فَهُوَ فِي إِيمَانِ الْقَلْبِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَأَمَّا آيَتَا أَوَاخِرِ التَّوْبَةِ (٩: ١٢٤، ١٢٥) وَآيَةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ (٧٤: ٣١) فَمِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ فِيهَا زِيَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيِّ اسْتَدَلَّ بِآيَتَيِ التَّوْبَةِ وَأَمْثَالِهِمَا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ، بَلْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، فَمِنَ الْعَجَبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ تُنْقَلَ هَفْوَةٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرَ فِيهَا زِيَادَةَ الْإِيمَانِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ لِشُبْهَةٍ نَظَرِيَّةٍ، وَيُجْعَلُ مَذْهَبًا يُقَلَّدُ صَاحِبُهُ فِيهِ تَقْلِيدًا، وَتُئَوَّلُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ لِأَجْلِهِ تَأْوِيلًا.

(الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَحْدَهُ، لَا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَى سِوَاهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْجُمْلَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ، وَالتَّوَكُّلُ أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِ وَأُمُورِ الْعَالَمِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ

أَنْ يَكِلَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ وَالْعَقْلِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ كَسْبًا اخْتِيَارِيًّا كَلَّفَهُ اللهُ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ يُجَازَى عَلَى عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ - وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ نَفْسِهِ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَارْتِبَاطِهَا بِالْمُسَبَّبَاتِ، مُعْتَقِدًا أَنَّ الْأَسْبَابَ - مَا يَعْقِلُ مِنْهَا كَالْإِنْسَانِ وَمَا لَا يَعْقِلُ - لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا يَنَالُهُ بِاسْتِعْمَالِهَا فَهُوَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ الَّذِي سَخَّرَهَا وَجَعَلَهَا أَسْبَابًا وَعَلَّمَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ يُطْلَبُ بِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يَتَوَكَّلُ فِيهِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَإِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ، وَإِيَّاهُ يَدْعُو فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْهُ، وَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ وَتَنَكُّبُ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَوَكُّلًا

<<  <  ج: ص:  >  >>