للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غَيْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَتَّفِقُ مَعْنَى الْوَجَلِ فِيهَا بِأَنَّهُ الْفَزَعُ وَشُعُورُ الْخَوْفِ يُلِمُّ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْخَوْفُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْمَهَابَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ، يَا شَهْرُ بْنَ حَوْشَبٍ، أَمَا تَجِدُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَادْعُ اللهَ فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: قَالَ فُلَانٌ: إِنِّي لَأَعْلَمُ مَتَى يُسْتَجَابُ لِي: قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدِي، وَوَجِلَ قَلْبِي، وَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَذَلِكَ حِينَ يُسْتَجَابُ لِي، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " مَا الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ إِلَّا كَضَرَمَةِ السَّعَفَةِ، فَإِذَا وَجِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَدْعُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَالسَّعَفَةُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ السَّعَفِ وَهُوَ جَرِيدُ النَّخْلِ إِذَا احْتَرَقَ يُسْمَعُ لَهُ نَشِيشٌ، شَبَّهَتْ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ شُعُورَ الرَّجُلِ يُلِمُّ بِالْقَلْبِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فَيَخْفِقُ لَهُ.

وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللهِ ذِكْرُ الْقَلْبِ لِعَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَلَالِهِ، أَوْ لِوَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ،

وَمُحَاسَبَتِهِ لِخَلْقِهِ وَإِدَانَتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ سَوَاءٌ صَحِبَهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ أَمْ لَا، وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ تَرْتِيلُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي صَلَاةِ التَّهَجُّدِ فِي الْخَلْوَةِ " اللهُ أَكْبَرُ " مُسْتَحْضِرًا لِمَعْنَى كِبْرِيَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَنْتَفِضُ وَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ، فَمَنْ خَصَّ الذِّكْرَ هُنَا بِالْوَعِيدِ غَفَلَ عَنْ كُلِّ هَذَا، وَظَنَّ أَنَّ الْوَجَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خَوْفِ الْعَذَابِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْخَشْيَةِ وَالْوَجَلِ مِنْ مَهَابَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعِزَّةِ سُلْطَانِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَمْ يَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (٣٥: ٢٨) وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ يَخْشَعُ قَلْبُهُ وَيُفِيضُ دَمْعُهُ مِنْ ذِكْرِ أَسْمَاءِ اللهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٥٩: ٢١، ٢٢) إِلَخْ، وَلَا يَجِدُ مِثْلَ هَذَا الْوَجَلِ عِنْدَ وَصْفِ جَهَنَّمَ، وَذِكْرِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِثْلَ هَذَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ فَهْمِهِ بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِدُونِ شُعُورٍ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فَيُقَابِلُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (١٣: ٢٨) فَيَظُنُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعَارُضًا فَيُحَاوِلُ التَّفَصِّي مِنْهُ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى ذِكْرِ الْوَعْدِ، وَالْآخَرِ عَلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا تَنَافِيَ، فَفِي كُلٍّ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ وَذِكْرِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ اطْمِئْنَانٌ لِلْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِمَا عِنْدَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَسْطُهُ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى: وَلَا ذِكْرَ يُضْرِمُ سَعَفَةَ الْوَجَلِ فِي الْقَلْبِ كَتِلَاوَةِ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٩: ٢٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>