للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ لِمُحَاجَّةِ الْخَوَارِجِ: احْمِلْهُمْ عَلَى السُّنَّةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ ذُو وُجُوهٍ. فَمُرَادٌ بِالسُّنَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَاهَا الْمُوَافِقِ لِلُّغَةِ لَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لِلْمُحَدِّثِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ الَّذِي يَشْمَلُ الْأَخْبَارَ الْقَوْلِيَّةَ وَغَيْرَهَا ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ ذَاتُ وُجُوهٍ أَيْضًا، وَرُبَّمَا كَانَتْ وُجُوهُهَا الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ أَكْثَرَ مِنْ وُجُوهِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا دُونَهُ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ ; وَلِذَلِكَ أَوْجَزَ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الدِّينِ الْعَمَلِيَّةِ وَوَكَّلَ بَيَانَهَا لِعَمَلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْعَمَلِ فَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".

أَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِتَذْكِيرِكَ بِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِمَا لَعَلَّكَ اطَّلَعْتَ أَوْ تَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي حَمَلَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُصَنَّفِينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (٥٣: ٣٨، ٣٩) فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ تَارَةً بِالتَّأْوِيلَاتِ السَّخِيفَةِ. وَتَارَةً بِدَعْوَى النَّسْخِ الْبَاطِلَةِ، وَتَارَةً بِدَعْوَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى لَا مِنْ شَرْعِنَا، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهِمَا بِالْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ كَوْنِ مَضْمُونِ الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِسْلَامِ الثَّابِتَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَمُؤَيَّدًا بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا كَآيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا تَتِمَّةً لِتَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ سُورَةِ فَاطِرٍ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٣٥: ١٨) وَالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُعَلِّقَةِ لِلْفَلَاحِ وَالْخُسْرِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ النَّاسَ لَا يُجْزَوْنَ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ هَكَذَا بِصِيغَتَيِ الْحَصْرِ الَّذِي تُعَدُّ دَلَالَتُهُ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ أَرْكَانِ الدِّينِ كُلِّهَا. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْجَزَاءِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ أَيْضًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا مُفَصَّلًا وَأَشَرْنَا فِيهِ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ

تَصْحِيحَ كُلِّ مَا فَشَا مِنَ الْبِدَعِ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ وَالْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ ضَلَالَةَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْمَذَاهِبِ مِنْهُمْ فَلَا هَمَّ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا أَخْذُ مَا يَرَوْنَهُ مُؤَيِّدًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَتَرْكُ مَا سِوَاهُ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَوْ دَعْوَى النَّسْخِ أَوِ احْتِمَالِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ الْعُمْيَانُ هُمُ الَّذِينَ جَوَّزُوا وَحْدَهُمْ لِلنَّاسِ إِهْدَاءَ عِبَادَاتِهِمْ لِلْمَوْتَى

<<  <  ج: ص:  >  >>