أَيْ: أَيُّ دَاعٍ لَنَا يَدْعُونَا إِلَى أَلَّا نُقَاتِلَ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْقِتَالِ، وَهُوَ إِخْرَاجُنَا مِنْ دِيَارِنَا بِإِجْلَاءِ الْعَدُوِّ إِيَّانَا عَنْهَا، وَإِفْرَادِنَا عَنْ أَوْلَادِنَا بِسَبْيِهِ إِيَّاهُمْ وَاسْتِعْبَادِهِ لَهُمْ؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ إِذَا قَهَرَهَا الْعَدُوُّ وَنَكَّلَ بِهَا يَفْسُدُ بَأْسُهَا، وَيَغْلِبُ عَلَيْهَاالْجُبْنُ وَالْمَهَانَةُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى إِحْيَاءَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا يَنْفُخُ رُوحَ الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ فِي خِيَارِهَا - وَهُمُ الْأَقَلُّونَ - فَيَعْمَلُونَ مَا لَا يَعْمَلُ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وَمَا هُوَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اسْتَعَدَّ مِنْهُمْ لِلْحَيَاةِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفِي الْآيَةِ
مِنَ الْفَوَائِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا وَتَضْعُفُ، قَدْ تُفَكِّرُ فِي الْمُدَافَعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَتَعْزِمُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا إِذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُهَا الَّتِي يَتَخَيَّلُونَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَّالَا
ثُمَّ إِذَا تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ يَضْعُفُونَ وَيَجْبُنُونَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ لِيَعْذُرُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَا هُمْ بِمَعْذُورِينَ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأُمَّتَهُمْ بِتَرْكِ الْجِهَادِ دِفَاعًا عَنْهَا وَحِفْظًا لِحَقِّهَا، فَهُوَ يَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الدُّنْيَا أَذِلَّاءَ مُسْتَضْعَفِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ أَشْقِيَاءَ مُعَذَّبِينَ.
أَقُولُ: وَفِي تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا يُفِيدُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ صَمْوَئِيل نَبِيًّا مُلْهَمًا قَدِ انْحَرَفُوا عَنْ شَرِيعَةِ مُوسَى وَنَسُوهَا، فَعَبَدُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَضَعُفَتْ رَابِطَتُهُمُ الْمِلِّيَّةُ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْفِلَسْطِينِيِّينَ فَحَارَبُوهُمْ حَتَّى أَثْخَنُوهُمْ فَانْكَسَرُوا، وَسَقَطَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَأَخَذُوا تَابُوتَ عَهْدِ الرَّبِّ مِنْهُمْ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَفْتِحُونَ - أَيْ: يَسْتَنْصِرُونَ وَيَطْلُبُونَ الْفَتْحَ - بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَمَّا أَخَذَهُ أَهْلُ فِلَسْطِينَ انْكَسَرَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْهَضْ هِمَّتُهُمْ لِاسْتِرْدَادِهِ، وَكَانُوا إِلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا مُلُوكَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ رُؤَسَاؤُهُمُ الْقُضَاةَ بِالشَّرِيعَةِ، وَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَمِنْهُمْ صَمْوَئِيل كَانَ قَاضِيًا، فَلَمَّا شَاخَ جَعَلَ بَنِيهِ قُضَاةً وَكَانَ وَلَدُهُ الْبِكْرُ وَوَلَدُهُ الثَّانِي مِنْ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَأَكَلَةِ الرِّشْوَةِ، فَاجْتَمَعَ كُلُّ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَلَأِ - وَطَلَبُوا مِنْ صَمْوَئِيلَ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَلِكًا يَحْكُمُ فِيهِمْ كَسَائِرِ الشُّعُوبِ، فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ ظُلْمَ الْمُلُوكِ وَاسْتِعْبَادَهُمْ لِلْأُمَمِ، فَأَلَحُّوا فَأَلْهَمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ شَاوِلُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute