لِعِزَّةِ الْأُمَمِ وَمَنَعَتِهَا وَحَيَاتِهَا الطَّيِّبَةِ الَّتِي يَقَعُ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهَا مِنَ الْأَقْوَامِ فِي الْهَلَاكِ وَالْمَوْتِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّةِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَارِّينَ مِنْ عَدُوِّهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ - قِصَّةُ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - تُؤَيِّدُ مَا قَبْلَهَا مِنْ حَاجَةِ الْأُمَمِ إِلَى دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا، فَهِيَ تُمَثِّلُ لَنَا حَالَ قَوْمٍ لَهُمْ نَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُمْ شَرِيعَةٌ تَهْدِيهِمْ إِذَا اسْتَهْدَوْا، وَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ بِالْقَهْرِ - كَمَا خَرَجَ أَصْحَابُ الْقِصَّةِ الْأَوْلَى بِالْجُبْنِ - فَعَلِمُوا أَنَّ الْقِتَالَ ضَرُورَةٌ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِهَا مَا دَامَ الْعُدْوَانُ فِي الْبَشَرِ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ جَبُنُوا وَضَعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ فَاسْتَحَقُّوا الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْمُفَصِّلَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمُجْمَلَةِ: فَرَّ أُولَئِكَ مِنْ دِيَارِهِمْ فَمَاتُوا بِذَهَابِ اسْتِقْلَالِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى دِيَارِهِمْ.
فَالْآيَةُ هُنَاكَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَوْتَهُمْ هَذَا سَبَبٌ عَنْ خُرُوجِهِمْ فَارِّينَ بِجُبْنِهِمْ، وَلَمْ تُصَرِّحْ بِسَبَبِ إِحْيَائِهِمُ الَّذِي تَرَاخَتْ مُدَّتُهُ، وَلَكِنْ مَا جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَبَذْلِ الْمَالِ الَّذِي يُضَاعِفُهُ اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً قَدْ هَدَانَا إِلَى سُنَّتِهِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ تُمَثِّلُ الْعِبْرَةَ فِيهِ، وَتُفَصِّلُ كَيْفِيَّةَ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ; إِذْ بَيَّنَتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاسَ احْتَاجُوا إِلَى مُدَافَعَةِ الْعَادِينَ عَلَيْهِمْ وَاسْتِرْجَاعِ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَاشْتَدَّ الشُّعُورُ بِالْحَاجَةِ حَتَّى طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمُ الزَّعِيمِ الَّذِي يَقُودُهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِلَادِ، وَقَامُوا بِمَا قَامُوا بِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَلَكِنَّ الضَّعْفَ كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنْ نُفُوسِهِمْ مَبْلَغًا لَمْ تَنْفَعْ مَعَهُ تِلْكَ الْعُدَّةُ، فَتَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا، وَأُلْهِمُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ رُشْدَهُمْ وَاعْتَبَرُوا فَانْتَصَرُوا.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ، وَالْمَلَأُ: الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ لِلتَّشَاوُرِ، لَا وَاحِدَ لَهُ، قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ، وَجَمْعُهُ أَمْلَاءٌ، سُمُّوا مَلَأً لِأَنَّهُمْ يَمْلَئُونَ الْعُيُونَ رِوَاءَ الْقُلُوبِ هَيْبَةً (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وَهَذَا النَّبِيُّ لَمْ يُسَمِّهِ الْقُرْآنُ، وَقَالَ (الْجَلَالُ) : هُوَ شَمْوِيلُ، وَهَذَا أَقْوَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُعَرَّبُ صَمْوِيلَ، أَوْ صَمْوَئِيل، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُوشَعُ، وَهَذَا مِنَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ; فَإِنْ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى، وَالْقِصَّةُ حَدَثَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ وَالزَّمَنُ بَيْنَهُمَا بَعِيدٌ، وَبَعْثُ الْمَلِكِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقَامَتِهِ وَتَوْلِيَتِهِ عَلَيْهِمْ (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ (عَسِيتُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْمَعْنَى هَلْ قَارَبْتُمْ أَنْ تُحْجِمُوا عَنِ الْقِتَالِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ كَمَا أَتَوَقَّعُ - أَوْ أَتَوَقَّعُ مِنْكُمُ الْجُبْنَ عَنِ الْقِتَالِ إِنْ هُوَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ؟ فَعَسَى لِلْمُقَارَبَةِ أَوْ لِلتَّوَقُّعِ (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute