للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِحَّتِهِ وَكَمَالِ قُوَاهُ الْمُسْتَلْزِمِ ذَلِكَ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ عَلَى قَاعِدَةِ ((الْعَقْلُ السَّلِيمُ فِي الْجِسْمِ السَّلِيمِ)) وَلِلشَّجَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَلِلْهَيْبَةِ وَالْوَقَارِ

(٤) تَوْفِيقُ اللهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالِاسْتِعْدَادُ هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْمَرْتَبَةِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ، وَالْعِلْمُ بِحَالِ الْأُمَّةِ وَمَوَاضِعِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا وَجَوْدَةِ الْفِكْرِ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا، هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي الْمَرْتَبَةِ، فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ بِحَالِ زَمَانِهِ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلسُّلْطَةِ اتَّخَذَهُ مَنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهَا سِرَاجًا يَسْتَضِيءُ بِرَأْيهِ فِي تَأْسِيسِ مَمْلَكَةٍ أَوْ سِيَاسَتِهَا، وَلَمْ يَنْهَضْ بِهِ رَأْيُهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّيِّدُ الزَّعِيمُ فِيهَا، وَكَمَالُ الْجِسْمِ فِي قُوَاهُ وَرِوَائِهِ هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَهُوَ فِي النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِيهِ.

وَأَمَّا الْمَالُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ تَأْسِيسِ الْمُلْكِ; لِأَنَّ الْمَزَايَا الثَّلَاثَ إِذَا وُجِدَتْ سَهُلَ عَلَى صَاحِبِهَا الْإِتْيَانُ بِالْمَالِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ فِي النَّاسِ مَنْ أَسَّسَ دَوْلَةً وَهُوَ فَقِيرٌ أُمِّيٌّ، وَلَكِنَّ اسْتِعْدَادَهُ وَمَعْرِفَتَهُ بِحَالِ الْأُمَّةِ الَّتِي سَادَهَا، وَشَجَاعَتَهُ كَانَتْ كَافِيَةً لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْإِدَارَةِ وَالشُّجْعَانِ عَلَى تَمْكِينِ سُلْطَتِهِ فِيهَا، وَقَدْ قَدَّمَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ عَلَى الرَّابِعِ; لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَوَاهِبِ الرَّجُلِ الَّذِي اخْتِيرَ مَلِكًا فَأَنْكَرَ الْقَوْمُ اخْتِيَارَهُ فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْجَوَابِ، وَأَمَّا تَوْفِيقُ اللهِ تَعَالَى بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا عَمَلَ لَهُ فِيهَا لِسَعْيهِ فَلَيْسَ مِنْ مَوَاهِبِهِ وَمَزَايَاهُ فَتَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ تَتِمَّةً لِلْفَائِدَةِ وَبَيَانًا لِلْحَقِيقَةِ; وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ قَاعِدَةً عَامَّةً لَا وَصْفًا لَهُ.

وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي صِفَاتِ الْجَدِيرِ بِالِاخْتِيَارِ لِزَعَامَةِ الْأُمَّةِ وَقِيَادَتِهَا:

فَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُو رَحْبَ ... الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا

لَا مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ ... وَلَا إِذَا عُضَّ مَكْرُوهٌ بِهِ خَشَعَا

(وَمِنْهَا) وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ مَالٌ يُثَمِّرُهُ عَنْكُمْ، وَلَا وَلَدٌ يَبْغِي لَهُ الرَّفْعَا

وَأَقُولُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَى إِسْنَادِ الشَّيْءِ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَفْعَلُهُ بِلَا سَبَبٍ وَلَا جَرَيَانٍ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (١٣: ٨) أَيْ: بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ مُوَافِقٍ لِلْحِكْمَةِ لَيْسَ فِيهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ، فَإِيتَاؤُهُ الْمُلْكَ لِمَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِجَعْلِهِ مُسْتَعِدًّا لِلْمُلْكِ فِي نَفْسِهِ، وَبِتَوْفِيقِ الْأَسْبَابِ لِسَعْيهِ فِي ذَلِكَ; أَيْ: هُوَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>