وَهَارُونَ إِذْ أَرْسَلَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَظْهَرَا الْخَوْفَ مِنْ بَطْشِهِ بِهِمَا: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٢٠: ٤٥، ٤٦) وَقَدْ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَكْمَلَ مِنْهُمَا إِذْ لَمْ يَخَفْ مِنْ قَوْمِهِ الْخَارِجِينَ فِي طَلَبِهِ لِلْفَتْكِ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَكَانَ لِلصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِهِمَا إِذْ خَافَ عَلَى خَلِيلِهِ وَصَفِيِّهِ الَّذِي شَرَّفَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْفَذِّ بِصُحْبَتِهِ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الْحُزْنِ لَا عَنِ الْخَوْفِ، وَنَهَى اللهُ مُوسَى وَهَارُونَ عَنِ الْخَوْفِ لَا عَنِ الْحُزْنِ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِنْ أَمْرٍ وَاقِعٍ، وَقَدْ كَانَ نَهْيُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُ عَنْهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَدْرَكَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ الْغَارَ بِالْفِعْلِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا "؟ وَأَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ انْفِعَالُ النَّفْسِ مِنْ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ، وَقَدْ نَهَى اللهُ رَسُولَيْهِ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِ سَبَبِهِ وَهُوَ لِقَاءُ فِرْعَوْنَ وَدَعْوَتُهُ إِلَى مَا أَمَرَهُمَا بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْخَوْفِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ خَائِفًا وَحَزِنًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، وَهُوَ مُقْتَضَى طَبْعِ الْإِنْسَانِ.
حَاصِلُ الْمَعْنَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ بِالنَّفْرِ لِمَا اسْتَنْفَرَكُمْ لَهُ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ، فَهُوَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي اضْطَرَّهُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ بِتَأَلُّبِهِمْ عَلَيْهِ، وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ، أَعْزَلَيْنِ غَيْرَ مُسْتَعِدَّيْنِ لِلدِّفَاعِ، وَكَانَ صَاحِبُهُ فِيهِ قَدْ سَاوَرَهُ الْحُزْنُ وَالْجَزَعُ - فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَقُولُ لَهُ فِيهِ وَهُوَ آمِنٌ مُطَمْئِنٌ بِوَعْدِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَمَعِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَنَحْنُ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ أَكْثَرَ مِمَّا
فَعَلْنَا مِنِ اسْتَخْفَائِنَا هُنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَ حَالَيِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ وَالصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ هُنَالِكَ إِذْ كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ، وَيَسْتَنْجِزُهُ وَعْدَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يُسَلِّيهِ وَيُهَوِّنُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، عَلَى خِلَافِ حَالِهِمَا فِي الْغَارِ، وَأَثْبَتْنَا أَنَّ حَالَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَانَ الْأَكْمَلَ الْأَفْضَلَ، إِذْ أَعْطَى حَالَ الْأَخْذِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِي بَدْرٍ حَقَّهُ، وَأَعْطَى حَالَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ فِي الْغَارِ حَقَّهُ.
فَتَكْرَارُ الظَّرْفِ " إِذْ " فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مُبْدِلًا بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ، بِهِ يَتَجَلَّى تَأْيِيدُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَكْمَلَ التَّجَلِّي، فَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِوَقْتِ خُرُوجِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُهَاجِرًا مَعَ صَاحِبِهِ بِمَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ شِدَّةِ الضَّغْطِ وَالِاضْطِهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (٨: ٣٠)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute