(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُعَبِّرَةِ عَنْ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي نَفَقَاتِهِمْ إِذَا تَحَدَّثُوا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَقُولُونَهَا لِلرَّسُولِ أَوْ لِعُمَّالِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُرَاءَاةً لَهُمْ، وَلَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمِنْ نِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمُ الَّتِي يُخْفُونَهَا، فَهُوَ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ - أَيْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ - وَيَجْزِيهِمْ بِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الْمُنَافِقِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ.
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إِيمَانًا صَادِقًا إِذْعَانِيًّا تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) (٩٢) الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِيهِمْ وَالنَّصُّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَقَدْ ذَكَرَ مِنْ وَصْفِهِمْ ضِدَّ مَا ذَكَرَهُ فِي وَصْفِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ (وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) أَيْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُهُ وَسِيلَةً لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَوَّلُهُمَا الْقُرُبَاتُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَانِيهِمَا صَلَوَاتُ الرَّسُولِ، أَيْ أَدْعِيَتُهُ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّصِّ انْتِفَاعُ أَحَدٍ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِلَّا الدُّعَاءَ وَمَا يَكُونُ الْمَرْءُ سَبَبًا فِيهِ كَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالسَّنَّةُ الْحَسَنَةُ يُتَّبَعُ فِيهَا. فَهَذَا
الْقَصْدُ فِي اتِّخَاذِ الصَّدَقَاتِ ضِدُّ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهَا مَغْرَمًا. وَالْقُرُبَاتُ كَالْقُرَبِ جَمْعُ قُرْبَةٍ (بِضَمِّ الْقَافِ) وَهِيَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ. كَالْقُرْبِ فِي الْمَكَانِ وَالْقُرْبَى فِي الرَّحِمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ: وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، فَقَصْدُ الْقُرْبَةِ فِي الْعَمَلِ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِيهِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّفَقَاتِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى إِخْلَاصِهِمْ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا وَالصَّلَوَاتُ جَمْعُ صَلَاةٍ وَمَعْنَاهَا، أَوْ أَحَدُ مَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ شَرْعِيٌّ وَجْهُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ رُوحُهَا الْأَعْظَمُ ; لِأَنَّهُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْعُبُودِيَّةُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا وَهُوَ فِي الْفَاتِحَةِ فَرِيضَةٌ، وَفِي السُّجُودِ فَضِيلَةٌ وَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُتَصَدِّقِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (١٠٣) .
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ عَلَى مَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِهِ مِنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَدَائِهِمْ بِهِ حَقَّ اللهِ، وَهُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ عِنْدَهُ. وَحَقُّ الرَّسُولِ وَهُوَ طَلَبُ دُعَائِهِ لَهُمْ بِقَبُولِ نَفَقَتِهِمْ وَإِثَابَتِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُشْعِرِ بِالِاهْتِمَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute