للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُخَاطِبًا لَهُ فِي ذَلِكَ خِطَابَ التَّكْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَسَمِ يُعَدُّ تَكْرِيمًا، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُقْسِمُ بِرَبِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا غَضِبَتْ مَرَّةً أَقْسَمَتْ بِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ بَعْدَ رِضَاهَا، فَقَالَتْ: " إِنَّمَا أَهْجُرُ اسْمَكَ "، أَقْسَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمْثَالَهُمْ، وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْإِيمَانَ زَعْمًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَحِيحًا حَقِيقِيًّا ـ وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ ـ إِلَّا بِثَلَاثٍ:

الْأُولَى: أَنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: فِي الْقَضَايَا الَّتِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا وَيَشْتَجِرُونَ فَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَقُّ فِيهَا لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، بَلْ يَذْهَبُ كُلٌّ مَذْهَبًا فِيهِ، فَمَعْنَى شَجَرَ: اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ فِيهِ، قِيلَ: إِنَّ شَجْرًا ـ مَصْدَرُ شَجَرَ ـ، وَالتَّشَاجُرُ وَالِاشْتِجَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْمُتَدَاخِلِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سُمِّيَ الشَّجَرُ شَجَرًا لِاشْتِجَارِ أَغْصَانِهِ وَتَدَاخُلِهَا ـ وَقِيلَ: مِنَ الشِّجَارِ ـ كَكِتَابٍ ـ وَهُوَ خَشَبُ الْهَوْدَجِ لِاشْتِبَاكِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّجَرِ ـ بِالْفَتْحِ ـ وَهُوَ مَفْتَحُ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنَاسِبَةٌ، وَتَحْكِيمُهُ تَفْوِيضُ أَمْرِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ الْحَرَجُ: الضَّيقُ، وَالْقَضَاءُ: الْحُكْمُ، وَزَعَمُ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَهَذَا مِنْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي يَتَجَرَّءُونَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلَا عِلْمٍ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تُذْعِنُ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا ضِيقٌ وَلَا امْتِعَاضٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَيْهَا الْأَلَمُ وَالْحَرَجُ إِذَا خَسِرَتْ مَا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الْفَوْزِ، وَالْحُكْمِ لَهَا بِالْحَقِّ الْمُخْتَصَمِ فِيهِ، عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنِ الْحَرَجِ يُفَاجِئُ النَّفْسَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى وَجَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى التَّرَاخِي فَعَطَفَهُ بِـ ثُمَّ وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِحُكْمِ الرَّسُولِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَالسَّعَادَةَ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ بِالذِّكْرَى وَيَنْحَى عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ حَتَّى تَخْشَعَ وَتَنْشَرِحَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْهَوَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ وِجْدَانِ الْحَرَجِ عَدَمُ الشَّكِّ فِي حَقِّيَّةِ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمُرِّ الْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، قَالَ هَذَا مَنْ قَالَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ ; لِأَنَّ وِجْدَانَ الْقَلْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا التَّسْلِيمُ هُنَا: الِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>