حَقِّيَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضِيقًا مِنْهُ يَنْقَادُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَيُنَفِّذُهُ طَوْعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مُؤَاخَذَةً فِي الدُّنْيَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى عَدَمِ مُعَارَضَةِ هَذَا بِفَتْوَاهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (٩: ٤٣) ، وَقَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى (٨٠: ١) ، إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ
مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ (٦٦: ١) ، وَأَحَالَ عَلَى تَأْوِيلِهِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَشَكَّ فِي عِصْمَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحُكْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ بِحَسَبِ صُورَةِ الدَّعْوَى وَظَاهِرِهَا لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِي مَعْنَاهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ وَصَحَّحُوهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ الرَّأْيُ هَلْ هُوَ عَنْ وَحْيٍ أَوْ رَأْيٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَطَاعُوا وَسَلَّمُوا تَسْلِيمًا، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا ذَكَرُوا مَا عِنْدَهُمْ، وَرُبَّمَا رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَيَا لَلَّهِ مَا أَكْمَلَ هَدْيَهُ، وَمَا أَجْمَلَ تَوَاضُعَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأُولَئِكَ الصَّحْبِ الْكَامِلِينَ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ وَلَا يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ، فَمَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ قِيَاسِهِ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطِيعٍ الرَّسُولَ، وَلَا مِمَّنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَمُخَالَفَةُ نَصِّ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ بِالْأَوْلَى عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ حُكْمُ اللهِ أَوْ حُكْمُ رَسُولِهِ فِي شَيْءٍ وَتَرَكَهُ إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُمْ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتْبَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَتَّخِذَهُمْ شَارِعِينَ، وَيُقَدِّمَ أَقْوَالَهُمْ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهُمْ بِتَلَقِّي هَذِهِ النُّصُوصِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى فَهْمِهَا لَا فِي آرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْمُعَارِضَةِ لِلنَّصِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute