للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَإِذَا

حَكَمَ لَكَ بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ صَارَ حَلَالًا لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَنَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَحَدٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ إِذَا أَخَذَهَا، فَمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ عِنْدَهُ نَصٌّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْسَخُهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالِاحْتِمَالِ، وَبَقِيَ مُقَلِّدًا لِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ يَسْتَحِلُّ مَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا مُتَّصِفًا بِالْخِصَالِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ إِلَخْ، تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَهُوَ نَفْيٌ وَإِبْطَالٌ لِظَنِّ الظَّانِّينَ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ يَكُونُونَ صَحِيحِي الْإِيمَانِ مُسْتَحِقِّينَ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهَا، لَا وَرَبِّكَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُوقِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مُذْعِنِينَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، وَلَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَطَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الضِّيقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَاضِعًا لِلْحُكْمِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يُلَازِمُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَخْضَعْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرْضَى بِالْحَقِّ مَتَى عَرَفَهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ فَحُكْمُ الرَّسُولِ يُرْضِيهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ.

أَقُولُ: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقَدْ أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ مِنْهُ فِي لُبَابِ النُّقُولِ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ أَيِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْعَبَ الزُّبَيْرُ حَقَّهُ وَكَانَ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: فَلَّا وَرَبِّكَ

لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ فَقَضَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْأَسْفَلُ، وَهَذِهِ عَيْنُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُخْتَصَرَةٌ، وَفِيهَا جَزْمٌ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الرُّوَاةِ لِانْطِبَاقِ الْآيَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>