وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٨: ٤٧) ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٢٨: ٥٩) وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٧: ١٥) وَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ (٦: ١٥٥ - ١٥٧) .
الْمُتَبَادِرُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الشَّاهِدُ الْأَخِيرُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ الْوَعِيدُ بِسَبَبِ الْعَذَابِ، وَالتَّهْدِيدُ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آيَاتِ رَبِّكَ (٦: ١٥٨) وَفِيهِ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، أَوْ بِالْمَوْتِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، وَيَعْقُبُ ذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فَهِيَ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ قَطْعَ حُجَّةِ النَّاسِ وَاعْتِذَارِهِمْ بِالْجَهْلِ، عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ وَيَقْضِي بِعَذَابِهِمْ، وَمَفْهُومُهُ وَمَفْهُومُ سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْلَا إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَكَانَ لِلنَّاسِ أَنْ يَحْتَجُّوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى عَذَابِهَا وَعَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا الَّذِي كَانَ أَصَابَهُمْ بِظُلْمِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى امْتِنَاعِ مُؤَاخَذَةِ اللهِ النَّاسَ وَتَعْذِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْهِدَايَةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِآيَةِ الْإِسْرَاءِ عَلَى نَجَاةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَكُلِّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَلَمَّا كَانُوا شِيَعًا تَتَعَصَّبُ كُلُّ شِيعَةٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبٍ يُنْسَبُ إِلَى عَمِيدٍ مِنْهُمْ قَدَّسُوهُ بِإِشْهَارِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ صَارَتْ كُلَّ شِيعَةٍ تَلْتَمِسُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤَيَّدُ مَذْهَبَهَا وَتُؤَوِّلُ مَا يَنْقُضُهُ. وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ آيَةَ الْإِسْرَاءِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ فِيهَا الْعَقْلُ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، فَلَا يَجِدُ أَبْرَعُ الْمُؤَوِّلِينَ وَالْمُحَرِّفِينَ مَنْفَذًا لِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الرُّسُلِ الْمُبَشِّرِينَ الْمُنْذِرِينَ، الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سِيَاقِ إِثْبَاتِ الْوَحْيِ، وَقَصَّ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ بَعْضَهُمْ، وَذَكَرَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْقَصَصِ: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ الْعَقْلُ، وَلَكِنْ قَدْ يَقُولُهُ الَّذِي جُنَّ فِي مَذْهَبِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا، وَمَا الْمَجَانِينُ فِي ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، وَكَيْفَ وَالتَّقْلِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَالِاكْتِفَاءِ فِيهِ بِمَا يُعْزَى إِلَى الْمَذْهَبِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ تَعْجِزُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute