للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(٨: ٢٨) أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ يَتَبَيَّنُ بِهِمَا قَدْرُ وُقُوفِكُمْ عِنْدَ الْحَقِّ، وَالْتِزَامِكُمُ الْكَسْبَ الْحَلَّالَ، وَقَالَ - تَعَالَى -: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (٢١: ٣٥) .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْفَتْنَ وَالْفُتُونَ مَصْدَرَيْ فَتَنَ مَعْنَاهُمَا الِابْتِلَاءُ لِلِاخْتِبَارِ وَظُهُورِ حَقِيقَةِ حَالِ الْمَفْتُونِينَ أَوْ لِتَصْفِيَتِهِمْ وَتَمْحِيصِهِمْ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ - تَعَالَى - لِمُوسَى فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٢٠: ٨٥) فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ رَبِّهِ لَهُ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ فَلَا جُرْأَةَ فِيهَا وَلَا إِدْلَالَ، دَعْ مَا يَرُدُّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ مُنَافَاتِهَا لِمَوْقِفِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ - وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ - تَعَالَى - لَهُ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طَه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (٢٠: ٤٠) أَيِ: اصْطَفَيْنَاكَ مِنَ الشَّوَائِبِ حَتَّى صِرْتَ أَهْلًا لِاصْطِنَاعِنَا وَرِسَالَتِنَا، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ قَبْلُ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ: وَأَثْبِتْ وَأَوْجِبْ لَنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ حَيَاةً حَسَنَةً فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَافِيَةِ وَبَسْطِ الرِّزْقِ، وَعِزِّ الِاسْتِقْلَالِ وَالْمُلْكِ، وَالتَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ، وَمَثُوبَةً حَسَنَةً فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ جَنَّتِكَ وَنِيلِ رِضْوَانِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيمَا عَلَّمَنَا مِنْ دُعَائِهِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً (٢: ٢٠١) فَإِنْ ثَمَرَةَ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: هَادَ يَهُودُ هَوْدًا (أَيْ: مِنْ بَابِ قَالَ) وَتَهَوَّدَ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ هَائِدٌ، وَقَوْمُ هُودٍ - مِثْلَ حَائِكٍ وَحُوكٍ وَبَازِلٍ وَبُزْلٍ - قَالَ أَعْرَابِيٌّ:

إِنِّي أُمُرُؤٌ مِنْ مَدْحِهِ هَائِدُ

وَفِي التَّنْزِيلِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ أَيْ: تُبْنَا إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ " إِلَى "؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى رَجَعَنَا. ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هَادَ إِذَا رَجَعَ مِنْ خَيْرٍ إِلَى شَرٍّ أَوْ مِنْ شَرٍّ إِلَى خَيْرٍ، وَدَاهَ إِذْ عَقَلَ، وَيَهُودُ اسْمُ الْقَبِيلَةِ قَالَ:

أُولَئِكَ أُولِي مِنْ يَهُودَ بِمَدْحِهِ ... إِذَا أَنْتَ يَوْمًا قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ

وَقِيلَ: إِنَّمَا هَذِهِ الْقَبِيلَةُ يَهُوذُ فَعُرِّبَتْ بِقَلْبِ الذَّالِ دَالًّا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالْمَعْنَى: إِنَّا تُبْنَا

إِلَيْكَ مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ طَلَبِ الْآلِهَةِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَقْصِيرِ خِيَارِنَا فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَوْ مِنْ طَلَبِ رُؤْيَتِكَ أَوْ مِنْ تَمَرُّدِ الْمَغْرُورِينَ عَلَى شَرِيعَتِكِ، وَكُفْرِ نِعْمَتِكَ - تُبْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْكَ فِي جُمْلَتِنَا مُسْتَغْفِرِينَ مُسْتَرْحَمِينَ كَمَا فَعَلَ أَبُونَا آدَمَ إِذْ تَابَ إِلَيْكَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَتُبْتَ عَلَيْهِ وَهَدَيْتَهُ وَاجْتَبَيْتَهُ، فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّتَكَ فِي وَلَدِهِ - يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَضْلُ قَوْلِهِ: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ التَّائِبِ الْمُنِيبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ لِلْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ كَانَ مِمَّا حَكَاهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ وَحْيِهِ إِلَى مُوسَى فِي سُورَةِ طَه وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) وَبِمَاذَا أَجَابَهُ اللهُ - تَعَالَى -؟

<<  <  ج: ص:  >  >>