للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِمَا يُنَافِي سُلْطَانَهُ الِاخْتِيَارِيَّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ كُلِّ سُلْطَانٍ، بَلْ لَا سُلْطَانَ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا سُلْطَانُ غَيْرِهِ بِهِ وَمِنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ إِلَّا مُرَاعَاةَ الْأَدَبِ لَكَفَى.

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ؛ أَيْ: وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَسَأَكْتُبُ رَحْمَتِي كَتْبَةً خَاصَّةً، وَأُثْبِتُهَا بِمَشِيئَتِي إِثْبَاتًا لَا يَحُولُ دُونَهُ شَيْءٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ وَالتَّمَرُّدَ عَلَى رَسُولِهِمْ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ، وَغَيْرَهَا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَخَصَّ الزَّكَاةَ بِالذِّكْرِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهَا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ حُبِّ الْمَالِ تَقْتَضِي بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَالِاخْتِبَارِ بِالْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُونَ لِلزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنَ التَّارِكِينَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شِدَّةِ حُبِّ الْيَهُودِ لِلدُّنْيَا وَافْتِتَانِهِمْ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَنْعِ بَذْلِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ: وَسَأَكْتُبُهَا كَتْبَةً خَاصَّةً لِلَّذِينِ يُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِنَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِنَا وَصِدْقِ رُسُلِنَا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ، مَبْنِيٍّ عَلَى الْعِلْمِ وَالْإِيقَانِ دُونَ التَّقْلِيدِ لِلْآبَاءِ وَعَصَبِيَّاتِ الْأَقْوَامِ.

وَنُكْتَةُ إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ (الَّذِينَ) مَعَ الضَّمِيرِ (هُمْ) إِمَّا جَعْلُ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ عَامًّا لِقَوْمِهِ

الَّذِينَ دَعَا لَهُمْ - مَنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْتِزَامِ التَّقْوَى، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ - وَجَعْلُ الثَّانِي خَاصًّا بِمَنْ يُدْرِكُونَ بِعْثَةَ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَتَّبِعُونَهُ كَمَا يَعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ - وَإِمَّا لِبَيَانِ الْفَصْلِ بَيْنَ مَفْهُومِ الْإِسْلَامِ وَمَفْهُومِ الْإِيمَانِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً وَالَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَالَّذِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (٢: ٥٥) لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْعَامَّةِ وَلَا الْخَاصَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَهَا، بَلْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمِصْرِيِّينَ - وَبَيَانُ أَنَّ كِتَابَةَ الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِسْلَامِ؛ وَهُوَ إِتْبَاعُ الرُّسُلِ بِالْفِعْلِ - وَالْإِيمَانُ الصَّحِيحُ بِالْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْيَقِينِ الْمَانِعِ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى الشِّرْكِ بِمِثْلِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَالْمُقْتَضَى لِاتِّبَاعِ مَنْ يَأْتِي مِنَ الرُّسُلِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَفِي هَذَا تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لِصِفَةِ مَنْ يَكْتُبُ تَعَالَى لَهُمُ الرَّحْمَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ اسْتِجَابَةَ دُعَائِهِ بِشَرْطِهِ، وَيَلِيهِ بَيَانُ أَحَقِّ الْأُمَمِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ؛ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ إِلَى أُمَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ فَصَلَ الِاسْمَ الْمَوْصُولَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْمَوْصُولِ الْأَخِيرِ أَوْ لِلْمَوْصُولَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ مَعًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ، وَلَوْ وَصَلَهُ فَقَالَ: " وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ " إِلَخْ. لَكَانَ مُغَايِرًا لَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ فِي الْمَفْهُومِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَخِيرِ مَنْ يُدْرِكُونَ بِعْثَةَ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَيَتَّبِعُونَهُ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>