للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِلنَّاسِ فَهُوَ مِنْ عَهْدِهِ إِلَيْهِمْ. وَمَنْ آمَنَ بِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ فَقَدْ عَاهَدَ اللهَ - بِالْإِيمَانِ بِهِ - أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. وَمَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ فَهُوَ عَهْدٌ عَاهَدَ رَبَّهُ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) (٩: ٧٥، ٧٦) إِلَخْ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَاهَدَ الْإِمَامَ وَبَايَعَهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْمَعْرُوفِ، أَوْ عَاهَدَ غَيْرَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ، وَالسُّلْطَانُ يُعَاهِدُ الدُّوَلَ - فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ مِنْ عَهْدِ اللهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا عُقِدَ بِاسْمِهِ أَوْ بِالْحَلِفِ بِهِ، وَكَذَا تَنْفِيذُ شَرْعِهِ.

وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ هُنَا تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْفِعْلِ " أَوْفُوا " عَلَيْهِ، وَهُوَ يَدُلُّ

عَلَى الْحَصْرِ. وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرِ الْحَصْرُ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا التَّقْدِيمَ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ، وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُمْ أَلْجَأَهُمْ إِلَيْهِ تَفْسِيرُهُمْ لِلْعَهْدِ، بِهَذِهِ الْوَصَايَا أَوْ بِكُلِّ مَا عَهِدَ اللهُ إِلَى النَّاسِ، عَلَى أَنْ تَدْخُلَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي قَاصِرٌ. أَمَّا بُطْلَانُ الْأَوَّلِ ; فَلِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنَ الْوَصَايَا الْمَقْصُودَةِ الْمَعْدُودَةِ وَلَهُ مَعْنًى خَاصٌّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ عَيْنَ مَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا قُصُورُ الثَّانِي، فَظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَهْدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ. فَالْعَهْدُ إِذًا عَامٌّ لِكُلِّ مَا شَرَعَ اللهُ لِلنَّاسِ، وَكُلِّ مَا الْتَزَمَهُ النَّاسُ مِمَّا يُرْضِيهِ وَيُوَافِقُ شَرْعَهُ، وَيُقَابِلُهُ مَا لَا يُرْضِي اللهَ مِنْ عَهْدٍ كَنَذْرِ الْحَرَامِ، وَالْحَلِفِ عَلَى فِعْلِهِ، وَمُعَاهَدَةِ الْحَرْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِلْأُمَّةِ وَهَضْمٌ لِمَصَالِحِهَا، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي. فَحَصَرَ اللهُ الْأَمْرَ بِالْوَفَاءِ فِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُرْضِيهِ لِيُخْرِجَ مِنْهُ هَذَا الْأَخِيرَ الَّذِي يُسْخِطُهُ. وَنَكْتَفِي مِنَ السُّنَّةِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَرْفُوعِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا - إِذَا حَدَّثَ كَذِبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ".

(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (تَذْكُرُونَ) مُخَفَّفَةً مِنَ الذِّكْرِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا كَمَا قِيلَ ; فَإِنَّ الصِّيَغَ مِنَ الْمَادَّةِ الْوَاحِدَةِ تُعْطِي مَعَانِيَ خَاصَّةً وَيُتَجَوَّزُ فِي بَعْضِهَا مَا لَا يَصِحُّ فِي بَعْضٍ، فَالذِّكْرُ يُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ عَلَى إِخْطَارِ مَعْنَى الشَّيْءِ أَوْ خُطُورِهِ فِي الذِّهْنِ وَيُسَمَّى ذِكْرَ الْقَلْبِ، وَعَلَى النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى ذِكْرَ اللِّسَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ، وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤٣: ٤٤) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَبِهِ يُسَمَّى الْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ذِكْرًا، وَمِنْهُ (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)

<<  <  ج: ص:  >  >>