للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى أَنَّ مِنْهُ نَبْذَ كِتَابِ اللهِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَدَمِ تَبْيِينِهِ عَلَى وَجْهِهِ، إِمَّا بِتَحْرِيفِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُوَافِقَ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، أَوْ أَهْوَاءَ النَّاسِ، وَإِمَّا بِالسُّكُوتِ عَنْهُ، وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ إِلَّا ادِّعَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ خَالَفُوا بَعْضَ نُصُوصِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. " وَثَانِيهِمَا ": حُبُّ الْمَدْحِ، وَالثَّنَاءِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَالنَّاسِ فِي الدِّينِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ يُبَيِّنُونَ الْحَقَّ لِوَجْهِ اللهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ، أَوْ غَيْرَ الْحَاكِمِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى عَمَلٍ يُرْضِي بِهِ هَوَاهُ، وَشَهْوَتَهُ مِمَّا يَحْظَرُهُ عَلَيْهِ الدِّينُ فَلَجَأَ إِلَى الْعَالِمِ فَعَلَّمَهُ حِيَلَةً

شَرْعِيَّةً يَسْلَمُ بِهَا مِنْ نَقْدِ النَّاقِدِينَ، وَذَمِّ الْمُتَدَيِّنِينَ، فَشُكَّ أَنَّهُ يَحْمَدُ ذَلِكَ الْعَالِمَ وَيُطْرِيهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ التَّقِيُّ الْمُحَقِّقُ، لَا مُكَافَأَةً لَهُ فَقَطْ بَلْ يَرَى مِنْ مَصْلَحَتِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَالصَّلَاحَ فِي مُفْتِيهِ لِيَأْخُذُوا كَلَامَهُ بِالْقَبُولِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ الثِّقَاتِ أَنَّ الْحُكَّامَ مُنْذُ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ مَعَ كِبَارِ شُيُوخِ الْعِلْمِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَرَمِينَ - عِنْدَ الْعَامَّةِ - عَلَى تَعْظِيمِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ، فَرُؤَسَاءُ الْحُكَّامِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ الْعُلَمَاءِ، وَالِاعْتِقَادَ بِوِلَايَةِ كِبَارِ شُيُوخِ أَهْلِ الطَّرِيقِ، فَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرُبَّمَا أَهْدَوْا إِلَيْهِمْ بَعْضَ الْهَدَايَا، وَالْمَشَايِخُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلِ الطَّرِيقِ يُظْهِرُونَ لِلْعَامَّةِ احْتِرَامَ أُولَئِكَ الْحُكَّامِ، وَيَشْهَدُونَ بِقُوَّةِ دِينِهِمْ، وَشِدَّةِ غَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ - يَقُولُونَ: وَإِنْ ظَلَمُوا وَجَارُوا ; لِأَنَّهُمْ مُسَلَّطُونَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ! ! ! فَهَكَذَا كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُسْتَبِدُّونَ، وَمَا زَالُوا يَسْتَفِيدُونَ مِنَ الدِّينَ بِمُسَاعَدَةِ رِجَالِهِ، وَيَتَّفِقُ الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالِهَا لَهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا بِلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَنَعِمِيهَا فَيَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنْ ضُرُوبِ الْمَكَايِدِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْفَعُ قَدْرَهُمْ، وَتُخْضِعُ الْعَامَّةَ لَهُمْ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا دَائِمًا بِأَنَّهُمْ أَنْصَارُ الدِّينِ، وَحُمَاتُهُ، وَمُبَيِّنُو الشَّرْعِ وَدُعَاتُهُ، وَإِنْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى كُتُبِ أَمْثَالِهِمْ، وَأَشْبَاهِمْ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ لَا تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَّا شَقَاءً بِهِمْ، حَتَّى سَبَقَتْهَا الْأُمَمُ كُلُّهَا بِسُوءِ سِيَاسَتِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الْكِتَابَ كَمَا أُمِرُوا بِالْبَيَانِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلْزَامِ الْحُكَّامِ بِهَدْيِهِ لَمَا عَمَّ الْفِسْقُ، وَالْفُجُورُ، وَصَارَتِ الشُّعُوبُ الْإِسْلَامِيَّةُ دُونَ سَائِرِ الشُّعُوبِ حَتَّى ذَهَبَتْ سُلْطَتُهَا، وَتَقَلَّصَ ظِلُّهَا عَنْ أَكْثَرِ الْمَمَالِكِ الَّتِي كَانَتْ خَاضِعَةً لَهَا، وَهِيَ تَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْخَطَرِ بِالْبَاقِي وَهُوَ أَقَلُّهَا.

وَقَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ الْحُكَّامِ هُمُ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ وُدَّ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَيَسْتَمِيلُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَزَّزُونَ، فَيَسْتَجِيبُ لِلرُّقْيَةِ بَعْضُهُمْ، وَيَعْتَصِمُ بِالْإِبَاءِ، وَالتَّقْوَى آخَرُونَ ; ثُمَّ انْعَكَسَتِ الْحَالُ، وَضَعُفَ سُلْطَانُ التَّقْوَى أَمَامَ سُلْطَانِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ، فَصَارَ رِجَالُ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَتَهَافَتُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، فَيُقَرَّبُ الْمُنَافِقُونَ، وَيُؤْذَى الْمُحِقُّونَ الْمُتَّقُونَ، وَتَكُونُ مَرَاتِبُ الْآخَرِينَ عَلَى نِسْبَةِ قُرْبِهِمْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>