فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَأَنَّ مَرْوَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَجَزِعَ رَافِعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنْشُدُكَ اللهَ هَلْ تَعْلَمُ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ "، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَعًا، قَالَ: وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْلِ الْيَهُودِ: نَحْنُ الْيَهُودُ، نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةِ، وَالطَّاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِمُحَمَّدٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوَ ذَلِكَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي كُلِّ ذَلِكَ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ أَيْضًا.
وَقَدْ وَجَّهَهَا بَعْضُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِمَّا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ، فَحَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَرِحُوا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَيُصَلُّونَ، وَيُطِيعُونَ اللهَ، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ
، وَالْكُفْرِ بِهِ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَنَحْنُ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ يُوَجَّهُ نُزُولُهَا فِي الْمُنَافِقِينَ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ فِي سِيَاقِ الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ، وَحِفْظِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، إِذْ أُخِذَ عَلَى أُولَئِكَ الْمِيثَاقُ، فَقَصَّرُوا فِيهِ، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ، وَتَبْيِينَهُ لِلنَّاسِ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -. بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْغَابِرِينَ لِيُحَذِّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ لِلْكِتَابِ، وَيَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ شَرَفًا فِيهِ، وَفَضْلًا بِأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهَذَا فَرَحٌ بِالْبَاطِلِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ حُفَّاظُ الْكِتَابِ، وَمُفَسِّرُوهُ، وَعُلَمَاؤُهُ، وَمُبَيِّنُوهُ، وَالْمُقِيمُونَ لَهُ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا نَقِيضَهُ إِذْ حَوَّلُوهُ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَ الْحُكَّامِ، وَأَهْوَاءَ سَائِرِ النَّاسِ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ حَمْدَهُمْ، بَيَّنَ اللهُ هَذِهِ الْحَالَ فِي أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ، بَيَّنَ فِيهِ حُكْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَرِحِينَ الْمُحِبِّينَ لِلْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهُمْ عَلَى النَّاسِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَأَنْصَارُ دِينِهِ، وَعُلَمَاءُ كِتَابِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ عَذَابِهِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْ رِضْوَانِهِ، فَبَيَّنَ اللهُ كَذِبَ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا مُبَيِّنَةٌ لِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَبْدَلُوهُ بِكِتَابِ اللهِ، وَكَوْنِهِ بِئْسَ الثَّمَنُ، وَهُوَ أَمْرَانِ: " أَحَدُهُمَا " فَرَحُهُمْ بِمَا أَتَوْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَرَحَ غُرُورٍ، وَخُيَلَاءَ، وَفَخْرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute