للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَجَاءٌ بِالْمَدِّ، وَرَجَيْتُهُ أَرْجِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى لُغَةً، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ يَخَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا يَتَرَجَّاهُ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّجَاءُ ظَنٌّ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (٧١: ١٣) ؟ قِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ؟ وَمَثَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ لِحَقِيقَةِ الرَّجَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ، وَالرُّشْدِ فِي الْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ الرَّجَاءِ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاكْتِرَاثِ، يُقَالُ: لَقِيتُ هَوْلًا مَا رَجَوْتُهُ وَمَا ارْتَجَيْتُهُ.

وَمَثَّلَ لَهُ بِشِعْرٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّجَاءَ: الْأَمَلُ وَالتَّوَقُّعُ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ وَنَفْعٌ، وَأَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ مَا فِيهِ شَرٌّ وَضُرٌّ، فَهُمَا مُتَقَابِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (١٧: ٥٧) وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ ١١ و١٥ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ ٢١ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِنْ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ مَنْفِيًّا يَحْتَمِلُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقَوْمٍ وَالرَّجَاءِ لِآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) (٧٨: ٢٧) .

وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الرَّجَاءَ هُنَا بِمُجَرَّدِ التَّوَقُّعِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا يَسُرُّ وَمَا يَسُوءُ. وَاللِّقَاءُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْمُوَاجَهَةُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَنَا فِي الْآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّلُونَ لِقَاءَهُ الْخَاصَّ بِالْمُتَّقِينَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِلِقَاءِ الرُّؤْيَةِ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَصَارَ كُلُّ هَمِّهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ مَحْصُورًا فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلِهِمْ لَهَا، كَمَا قَالَ فِي الْمُتَثَاقِلِينَ عَنِ النَّفِيرِ لِلْجِهَادِ: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ) (٩: ٣٨) ؟ الْآيَةَ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا بِسُكُونِ نُفُوسِهِمْ وَارْتِيَاحِ قُلُوبِهِمْ بِشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزِينَتِهَا لِيَأْسِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِنَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْكَوْنِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ

مِنْ حِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجِهَادِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَكَانُوا بِهَذِهِ الْغَفْلَةِ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَنَا، فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَشْغَلُهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِحِسَابِنَا لَهُ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ مَأْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَارُ الْعَذَابِ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ الْمُدَنِّسَةِ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَعْمَالِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَظُلُمَاتِ الْمَظَالِمِ الْوَحْشِيَّةِ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا الَّذِي دَنَّسَ أَنْفُسَهُمْ وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَمْ يَعُدْ لِنُورِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَكَانٌ فِيهَا. وَالْمَأْوَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ أَوِ الْخَائِفُ أَوِ الْمُحْتَاجُ مِنْ مَكَانٍ آمِنٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَافِعٍ، كَمَا تَرَى فِي اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِهِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (٩٣: ٦) (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) (١٨: ١٠) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) (٨: ٧٢) (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) (١٢: ٦٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>