الرَّخَاءُ وَهَنَاءُ الْعَيْشِ فَيُنْسِيهِ ضَعْفَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَالشَّدَائِدُ تُذَكِّرُهُ بِهِ، وَالْكَافِرُ بِالنِّعَمِ قَدْ يَعْرِفُ قِيمَتَهَا بِفَقْدِهَا، فَيَنْقَلِبُ شَاكِرًا بَعْدَ عَوْدِهَا، بَلِ الْكَافِرُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَنَبَّهَ الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ مَرْكَزَ الشُّعُورِ بِوُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لِأُمُورِ الْخَلْقِ فِي دِمَاغِهِ، وَتَذَكُّرِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنْ وُجُودِ مَصْدَرٍ لِنِظَامِ الْكَوْنِ وَأَقْدَارِهِ، كَمَا وَقَعَ كَثِيرًا، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَقَدْ رُوِيَ لَنَا أَنَّ الْحَرْبَ الْعُظْمَى قَدْ كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ حَتَّى فِي أَقَلِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، وَهُمْ أَهْلُ مَدِينَةِ بَارِيسَ، فَكَانَتِ الْمَعَابِدُ تُرَى مُكْتَظَّةً بِالْمُصَلِّينَ فِي أَثْنَاءِ شَدَائِدِ الْحَرْبِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ نُكْتَةَ خُلُوِّ جُمْلَةِ أَخَذْنَا أَهْلَهَا الْحَالِيَّةِ مِنَ الْوَاوِ، " وَقَدْ " هِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُقْتَرِنَةِ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا كَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا فَعَلَ زَيْدٌ كَذَا إِلَّا، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، كَانَ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ أَعَدَّهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي فِعْلِهِ لِأَجْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٢٨: ٥٩) أَيْ: مُتَلَبِّسُونَ بِالظُّلْمِ مِنْ قَبْلُ لَا حَالَ الْإِهْلَاكِ فَقَطْ، وَإِذَا قِيلَ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ شَمِلَ إِعْدَادَهَا قَبْلَهُ لِأَجْلِهِ وَهِيَ الْحَالُ السَّابِقَةُ، وَإِعْدَادَهَا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَهِيَ الْحَالُ الْمُقَارَنَةُ، بَلْ هَذِهِ الْمُتَبَادَرَةُ إِلَى الذِّهْنِ هُنَا، كَقَوْلِكَ: مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا أَجَابَنِي؛ أَيْ: عِنْدَ السُّؤَالِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: إِلَّا وَقَدْ أَجَابَنِي، وَيَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا وَقَدْ أَذِنَ لِي؛ أَيْ: قَبْلَ السُّؤَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ مُقَارَنَةً فِي الْآيَةِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا أَفَادَتْهُ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالسَّيِّئَةِ ثُمَّ بِالْحَسَنَةِ ثُمَّ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَاقِعًا كُلَّهُ بَعْدَ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي عَهْدِهِمْ، وَهُوَ قَدْ يَصْدُقُ فِي قَوْمِ نُوحٍ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهَا تَشْمَلُ الْحَالُ السَّابِقَةُ وَالْمُقَارَنَةُ، فَلْيَتَأَمَّلْ فَإِنَّنَا لَمْ نَرَ لِأَحَدٍ بَحْثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ عَبَدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ حَقَّقَ أَنَّ الْحَالَ الْمُفْرَدَةَ تُفِيدُ الْمُقَارَنَةَ، وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ
تُفِيدُ سَبْقَ مَضْمُونِهَا، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قَوْلِكَ: عَلَى أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا، وَقَوْلِكَ: عَلَى أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّفْسِيرِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا (٤: ٤٣) الْآيَةَ: (فَرَاجِعْهُ فِي ص ٩٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) .
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أَيْ: ثُمَّ بَلَوْنَاهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَجَعَلْنَا الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ فِي مَكَانِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ كَالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ، وَالْغِنَى فِي مَكَانِ الْفَقْرِ، وَالنَّصْرِ عَقِبَ الْكَسْرِ، حَتَّى عَفَوْا أَيْ: كَثَرُوا وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ: وَهُوَ مِنْ: عَفَا النَّبَاتُ وَالشَّحْمُ وَالشَّعْرُ وَنَحْوُهُ إِذْ كَثُرَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ عَنِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيُسْرَ وَالرَّخَاءَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ النَّسْلِ وَبِهِ تَتِمُّ نِعَمُ الدُّنْيَا عَلَى الْمُوسِرِينَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute