للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَانَتْ قَلِيلَةَ الْعِنَايَةِ بِالنَّظَافَةِ ; لِقِلَّةِ الْمَاءِ فِي بِلَادِهَا، وَلِقُرْبِ أَهْلِ الْحَضَرِ مِنْهَا مِنَ الْبَدْوِ فِي قِلَّةِ التَّأَنُّقِ وَالتَّرَفِ.

نَفْيُ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ وَإِثْبَاتِ الْيُسْرِ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلٌ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ، تُبْنَى عَلَيْهِ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا نَفْيُ الْحَرِجِ، وَالْمُرَادُ بِهِ - أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ - مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآيَةِ، أَوْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَثَانِيًا - وَبِالتَّبَعِ - جَمِيعُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ، مَثَلًا ; لِأَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ ; فَقَالَ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢٣: ٧٨) الْآيَةَ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدَهُ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ لَيْسَ مِنَ الْحَرَجِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقَّ الْجِهَادِ، وَهُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَكُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْحَقِّ

وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ. وَلَا يَصْعَدُ الْإِنْسَانُ إِلَى مُسْتَوَى كَمَالِهِ إِلَّا بِبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ وَالْمَشَقَّةُ فِيمَا ضَرَرُهُ أَرْجَحُ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ ; كَالْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالِامْتِنَاعِ مَنْ سَدِّ الرَّمَقِ بِلَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْخَمْرِ لِمَنْ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا، وَكَاسْتِعْمَالِ الْمَرِيضِ الْمَاءَ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مَعَ خَشْيَةِ ضَرَرِهِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَرْدِ بِهَذَا الْقَيْدِ، أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ غَرَضِ الشَّارِعِ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فِي وَقْتٍ آخَرَ ; كَالصِّيَامِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، بَعْدَ بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ، وَالرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِالْفِطْرِ، بِأَنَّهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ.

وَقَدْ بَنَى الْعُلَمَاءُ عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَإِثْبَاتِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى الْيُسْرَ بِالْعِبَادِ فِي كُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ - عِدَّةَ قَوَاعِدَ وَأُصُولٍ، فَرَّعُوا عَلَيْهَا كَثِيرًا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، مِنْهَا: " إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ "، وَ " الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ "، وَ " دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ "، وَ " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ "، وَ " مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ "، وَ " مَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ".

وَقَدْ نَاطَ الْفُقَهَاءُ مَعْرِفَةَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وَتَكُونُ سَبَبَ التَّخْفِيفِ بِعُرْفِ النَّاسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>