للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْإِيثَارُ، الَّتِي لَمْ يَعْهَدِ الْبَشَرُ مِثْلَهَا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَجَلَّى بِهِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا.

(الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ) : اتِّفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الطَّهَارَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَسْبَابٍ وَاحِدَةٍ أَيْنَمَا كَانُوا وَمَهْمَا كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا، وَأَنَّ اتِّفَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ ; فَكُلَّمَا كَثُرَ مَا تَتَّفِقُ بِهِ كَانَ اتِّحَادُهَا أَقْوَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

ثُمَّ نَقُولُ (سَادِسًا) : إِنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ تَقْصِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ الْعَامَّةِ، لَا حُجَّةَ فِيهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي النَّظَافَةِ، وَيَعُدُّونَ الطَّهَارَةَ أَمْرًا تَعَبُّدِيًّا، لَا يُنَافِي الْقَذَارَةَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ طَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ كَالْجِيفَةِ فِي وَسَخِهِ وَنَتَنِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَظِيفًا تَامَّ النَّظَافَةِ، وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، وَيَعُدُّونَ كَثِيرًا مِنَ الطِّيبِ وَالْمَائِعَاتِ الْمُطَهِّرَةِ نَجِسَةً ; كَالْكُحُولِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ حُجَّةٌ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَيْهِ، إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ وَيَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، لَا عَنْ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمُعْتَرِضِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ أُصُولِهِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ شَيْئًا، إِلَّا مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ، وَلَا سِيَّمَا الْمُعَمَّمِينَ مِنْهُمْ، بَلْ يَعُدُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ بَعْضِ أَعْدَائِهِ، وَيَقْرَءُونَهُ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي يَنْشُرُهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَنَحْوُهَا مَا يَكْتُبُهُ رِجَالُ السِّيَاسَةِ ; لِأَنَّهُمْ يُتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَنْظُرُ إِلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى حَالِ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مُلْتَمِسًا مِنْهَا مَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَعِيبَهُ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ ; فَهُوَ لَا يَطْلُبُ حَقِيقَتَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُدْرِكُهَا، وَلَا يَقُولُ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ، بَلْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الطَّهَارَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَطُّعٍ، وَلَا وَسْوَسَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ فِي الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَلَا التَّرْتِيبُ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلِ الْمُطَّرِدِ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ طَهَارَةَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ الْأَطْرَافِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوَسَخُ كُلَّ يَوْمٍ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ يَوْمٍ، وَغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَأَكَّدَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَحَثَّ عَلَى السِّوَاكِ وَالطِّيبِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ امْتِيَازُ الْإِسْلَامِ بِالنَّظَافَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، حَتَّى صَارَ هَذَا مَعْرُوفًا لَهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَسَمِعْتُ كَثِيرِينَ مِنْ أُدَبَاءِ النَّصَارَى يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَيُعَلِّلُونَهَا بِأَنَّ الْعَرَبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>