للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحْكَامِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُذْعِنُ لِكُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ دِينُهُ، وَلَا يُهِمُّهُ الْبَحْثُ

عَنْ حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ اسْتِعْدَادَهُ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ إِذَا قَبِلَ ذَلِكَ، بَادِئَ بَدْءٍ، مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عِنْدَمَا يَتَفَقَّهُ فِي دِينِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَهْمَا ضَعُفَ الدِّينُ فَهُوَ أَعَمُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ مُتَدَيِّنٌ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَمَا نَرَاهُ مِنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ، فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الِاسْمُ، فَلَا تَعَلَّمُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَا تَرَبَّوْا عَلَى تَزْكِيَتِهِ.

وَ (رَابِعًا) : أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْفَضَائِلَ، دِينًا هُوَ أَنَّ الْوَحْيَ الْإِلَهِيَّ يَأْمُرُنَا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَوَائِدِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَنْفَعُنَا، وَتَدْرَأُ الضُّرَّ عَنَّا، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَلِفَوَائِدَ أُخْرَى لَا نُدْرِكُهَا إِلَّا بِجَعْلِهَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ.

وَ (خَامِسًا) : - وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ، وَمَا قَبْلُهُ تَمْهِيدٌ وَمُقْدِمَاتٌ - أَنَّ الْفَوَائِدَ مِنْ جَعْلِ الطَّهَارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعِبَادَتِهِ أَرْبَعٌ، وَهِيَ كَمَا نَرَى:

الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ: (الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا كُلُّ مُذْعِنٍ لِهَذَا الدِّينِ ; مِنْ حَضَرِيٍّ وَبَدَوِيٍّ، وَذَكِيٍّ وَغَبِيٍّ، وَفَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ، وَعَالِمٍ بِحِكْمَتِهَا وَجَاهِلٍ لِمَنْفَعَتِهَا حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ فِيهَا الْآرَاءُ، وَلَا تَحُولَ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا الْأَهْوَاءُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ مَا يَسْتَقِلُّونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ.

(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُذَكِّرَاتِ لَهُمْ بِفَضْلِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ، فَإِذَا تَذَكَّرُوا أَنَّهُ يُرْضِيهِ عَنْهُمْ أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَتَذَكَّرُونَ أَنَّ أَهَمَّ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ تَطْهِيرَ أَجْسَادِهِمْ هُوَ أَنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا صَلَاحُ أَعْمَالِهِمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ نَظَرَ الرِّضَاءِ وَالرَّحْمَةِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، لَا إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، فَيَعْنُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ تَوَسُّلًا بِهِمَا إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (٢: ٢٠١) .

(الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) : أَنَّ مُجَرَّدَ مُلَاحَظَةِ الْمُؤْمِنِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ، وَابْتِغَاءِ

مَرْضَاتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ، مِمَّا يُغَذِّي الْإِيمَانَ بِهِ، وَيَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ طَهَارَةٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْمُلَاحَظَةِ، الَّتِي شَرَحْنَا مَعْنَاهَا فِي بَحْثِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، جَذْبَةٌ إِلَى حَظِيرَةِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَتَعْلُو بِهَا هِمَّتُهُ، وَتَتَقَدَّسُ بِهَا رُوحُهُ، فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ عَمَلُهُ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ ; لِهَذَا كَانَ لِأُولَئِكَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، تِلْكَ الْأَعْمَالُ وَالْآثَارُ، وَالْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>