للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ وَسَائِلِ الْمَعَاصِي وَمَقَاصِدِهَا كَضَرَرِ الْعِبَادِ، وَأَسْبَابِ الْفَسَادِ، وَطَلَبِ الْمُحَالِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَقْلِيِّ كَطَلَبِ إِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ وَتَبْدِيلِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا، وَمِنْهُ طَلَبُ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، مَعَ تَرْكِ وَسَائِلِهِ كَأَنْوَاعِ السِّلَاحِ وَالنِّظَامِ، وَالْغِنَى بِدُونِ كَسْبٍ، وَالْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) (٣٥: ٤٣) .

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قَالَ: فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَا يَسْأَلُ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنًا لَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا - وَنَحْوًا مِنْ هَذَا - وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا. فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ خَيْرًا كَثِيرًا وَتَعَوَّذْتَ بِهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ - وَفِي لَفْظٍ - يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ " وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.

(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أَيْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِعَمَلٍ ضَائِرٍ وَلَا بِحُكْمٍ جَائِرٍ، مِمَّا يُنَافِي صَلَاحَ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ كَعُقُولِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، أَوْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ مِنْ زِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَطُرُقِ مُوَاصَلَةٍ وَوَسَائِلِ تَعَاوُنٍ - لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ تَعَالَى لَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِغْلَالِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ، وَامْتِنَانِهِ بِهَا عَلَيْهِمْ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ

جَمِيعًا) (٢: ٢٩) وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٥: ١٣) وَمِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ فِيهَا، فَالْإِصْلَاحُ الْأَعْظَمُ إِنَّمَا هُوَ إِصْلَاحُهُ تَعَالَى لِحَالِ الْبَشَرِ، بِهِدَايَةِ الدِّينِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِكْمَالِ ذَلِكَ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِينَ، فَأَصْلَحَ بِهِ عَقَائِدَ الْبَشَرِ بِبِنَائِهَا عَلَى الْبُرْهَانِ، وَأَصْلَحَ بِهِ أَخْلَاقَهُمْ وَآدَابَهُمْ بِمَا جَمَعَ لَهُمْ فِيهَا بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَصْلَحَ سِيَاسَتَهُمْ وَنَوَّعَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِشَرْعِ حُكُومَةِ الشُّورَى الْمُقَيَّدَةِ بِأُصُولِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ. وَالْبَشَرُ سَادَةُ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْهَا كَالْقَلْبِ مِنَ الْجَسَدِ وَالْعَقْلِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَا صَلَحُوا صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا فَسَدُوا فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَشَدُّ الْفَسَادِ الْكِبْرُ وَالْعُتُوُّ، الدَّاعِيَانِ إِلَى الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ، أَلَمْ تَرَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ كَيْفَ أَصْلَحُوا كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَعَجَزُوا عَنْ إِصْلَاحِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، بِمُعَادَاتِهِمْ أَكْمَلَ الْأَدْيَانِ، فَحَوَّلَتْ دُوَلُهُمْ كُلَّ مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، إِلَى إِفْسَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَتَعَادَى شُعُوبُهُ بِالتَّنَازُعِ عَلَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِبَاحَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَبَذْلِ ثَرْوَةِ الْعَامِلِينَ مِنْ شُعُوبِهِمْ، فِي سَبِيلِ التَّنْكِيلِ بِالْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَلَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>